ممتاز ار توركونه
هناك فوارق عميقة بين ما يظهر وما يخفى في تركيا. وإن محاولة الرئيس رجب طيب أردوغان لشنّ حروب كلامية بشكل دائم في سبيل أن يبقى على رأس أجندة الرأي العام لهي إشارة مباشرة على الضعف والوهن اللذين أصاباه.
فهل يشعر مَن يمتلك القوة في يده بالفعل بالحاجة لأن يصيح ويصرخ في وجه كل من يصادفه؟ إن أردوغان لا يدير الدولة، بل إنه لا يستطيع أن يديرها. كما أنه يحول دون أن يديرها رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو. ومن المعروف أن صلاحيات رئيس الجمهورية في تركيا تقتصر على عملية “الفرملة” وتأمين التوازن داخل نظام الدولة. أما من يتولى دفة القيادة فهو رئيس الوزراء. ونحن هنا لسنا أمام نوع من التوازن بين قطبين متضادين من النوع الذي كان في تركيا في ظل رئاسة أحمد نجدت سيزار رئيس الجمهورية الأسبق (2000 – 2007) الذي دمر التوازن داخل الدولة وضغط على” الفرامل” بأقصى ما لديه من قوة وجعل من جهاز الدولة جهازًا لا يعمل. بل إن أردوغان يدمر التوازن الداخلي للحكومة بالتعاون مع أسماء مرتبطة بمنهجه بشكل مباشر ولهذا فإنه يعطّل نظام الدولة بشكل كامل.
يجب على الجميع ألا ينظروا إلى هذه القضية على أنها مسألة شخصية. مَن يجب أن يحكم تركيا؟ أردوغان أم داود أوغلو؟ علينا أن نبحث عن إجابة لهذا السؤال في المناصب وليس لدى الأشخاص: رئيس الوزراء هو مَن يجب أن يحكم تركيا وإلا فإن جهاز الدولة الممل والثقيل لن يعمل ولن يستطيع أن يؤدي أبسط المهام الموكلة إليه.
ينهار الاقتصاد التركي بسبب الدعم الذي يقدمه الرئيس أردوغان إلى المقاولين المؤيدين له. أما مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي فتسير في عكس الاتجاه بسبب خيال أردوغان الشخصي الحالم بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون.
لقد تحول موضوع الفساد إلى راية يرفعها المعارضون لأردوغان داخل حزب العدالة والتنمية. أما أكثر المشاكل خطورة في تركيا فهي مفاوضات السلام التي تديرها الحكومة مع حزب العمال الكردستاني والتي خرجت عن سيطرة رئيس الوزراء ولهذا فإنها تنذر بمشاكل جديدة.
إن الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين تنظيم حزب العمال الكردستاني وحزب الله التركي في بلدة جيزره التابعة لمحافظة شرناق جنوب شرق تركيا في اليومين الماضيين تبرهن على صحة الإصرار على “النظام العام” في المفاوضات الذي يشدّد عليه رئيس الوزراء باستمرار. ولقد أدركنا في هذه المرحلة أن منظمة حزب العمال الكردستاني تعتبر أكبر عائق يحول دون حل القضية الكردية؛ إذ إنها تقوم بعملية “مسح أيدولوجي” بين الأكراد. وإن جهاز المخابرات التركي وعبد الله أوجلان، اللذين اختزلا القضية في تفاوض جهاز المخابرات مع المنظمة الإرهابية لايلقيان بالًا للجانب الاجتماعي للمنطقة.
لقد انتشرت شائعات مفادها أن عددًا كبيرًا من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش) الذين هاجموا مدينة عين العرب (كوباني) شمال سوريا هم من الأكراد الذين استولت منظمة حزب العمال الكردستاني على ممتلكاتهم وأرغمتهم على الهجرة من موطنهم مسبقا. واليوم ما نشهده في بلدة جيزره هو الشيء نفسه. فالمنظمة لاتعترف بحق الحياة للأكراد الذين لايتبعون أيدولوجيته ولايطيعون انضباطه التنظيمي. وكذلك تنمو هناك مشكلة لتكون كبيرة وخطيرة جدًا حتى لا تستطيع الدولة ولا حزب العمال الكردستاني السيطرة عليها فيما بعد. يبدو بوضوح أن مسألة الحقوق الأساسية للأكراد الذين لايدعمون المنظمة ليست أمرا يهتم به من يديرون المفاوضات.
إن أثقل الانتقادات التي وجهها رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (توسياد) مختزلة في عبارة: “إن مخاطبنا هو رئيس الوزراء وليس رئيس الجمهورية”. ولقد أصبحت سلطة الدولة التي اختلت بسبب تدخلات رئيس الجمهورية غير قادرة على ممارسة مهامها.
من الخطأ أن نطلق وصف “الصراع الشخصي” على الصراع القائم بين فريقي داود أوغلو وأردوغان الذي يمثله أسماء مخضرمة مثل بولنت أرينتش وجميل تشيشيك من جهة وشخصيات مثل وزير النقل السابق بينالي يلدريم من جهة أخرى. فانعقاد اجتماع مجلس الوزراء في يناير / كانون الثاني المقبل الذي يتركز عليه هذا الصراع يعبر عن توقف عمل جهاز الدولة. ولا يمكن إدارة هذا الجهاز من خلال رئيس جمهورية يطيعه رئيس الوزراء طاعة عمياء بغض النظر عن الشخص الذي يشغل هذا المنصب. وإذا كررنا: إن هذا هو السبب الذي يجعل مفاوضات السلام تتقدم إلى “حقل ألغام” ويجعل التنمية الاقتصادية تتوقف وهذا هو الذي يجعل تركيا تضر مصالحها بنفسها في كل خطوة تخطوها على مستوى السياسة الخارجية. أضف إليه أن التوافق الذي من المفترض أن يكون قائمًا بين الدولة والمجتمع يتمزق ويصبح إربًا إربًا بسبب أصحاب السلطة الذين يحولون دون إتمام التحقيق في فضيحة الفساد.
لن نستطيع أن نجد الحل بين الترجيحات الشخصية لأردوغان أو داود أوغلو، لأن الصراع يعتبر صراعًا بنيويًا. فالسياسي يستطيع أن يحقق النجاح بقدر ما يستطيع مواءمة الظروف. أما الانتخابات فهي “يوم الحشر” بالنسبة للسياسي كما أن الحسابات والرغبات الشخصية تنسحق تحت ثقل وأهمية الصندوق الانتخابي. ويعلم داود أوغلو أنه سيتلقى هزيمة في الانتخابات البرلمانية التي سيخوضها بصفته “امتدادًا” لأردوغان على رأس دولة لايستطيع حكمها. وفي الواقع، فإن أردوغان يرى – هو الآخر – أن الوهن أصاب حزبه بسببه. ولهذا السبب فإن داود أوغلو الذي يتحمل مسؤولية رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء يمكنه أن يزيل كل ما يعوقه ويزعجه في طريقه بسهولة بشرط أن يحمي ويستخدم صلاحيات منصبه بحرية وكما يجب.
إن الذين يسعون لتبين الأقوى من الإثنين (داود أوغلو وأردوغان) ابتداء من أعلى طبقة في المجتمع إلى أدناها سيحصلون على إجابة عن تساؤلاتهم في شهر يناير المقبل. وإن ما سيحدد هذا الجواب هو احتياجات جهاز الدولة وليس الثقل الشخصي للاثنين. فالمشكلة في هذا المقام هي إدارة الدولة وليست إدارة حزب سياسي. ولذلك، فإنه من الواضح من سيربح في نهاية المطاف.
أتمنى عامًا جديدًا سعيدًا لبلدنا ودولتنا وشعبنا