ممتاز أرتركونه
بقيت بضعة أسابيع من أجل عودة تركيا إلى طريق النجاة الوحيد قبل سقوطها في الهاوية. فالرئيس رجب طيب أردوغان يقود البلاد بسرعة رهيبة نحو كارثة محققة، مستغلًا السلطات التي بين يديه. وهو لايتورّع عن ارتكاب جرائم أكثر خطورة من أجل التغطية على الجرائم التي ارتكبها الواحدة تلو الأخرى للتستر على فضائح الفساد. والأدهى من ذلك أنه يغيّر وجهة تركيا بالكامل من أجل الحفاظ على أمنه الشخصي.
لقد أصبح قَدر تركيا بين يدي رجل لم تعد لديه حيلة سوى جرّ البلاد إلى حافة الهاوية من أجل إنقاذ نفسه. لذا، وجب على كل قادر عاقل في هذا البلد أن يوقف هذا التردّي الخطير.
كان السلطان العثماني محمود الثاني قد طلب مساعدة روسيا لإيقاف تقدم الجيش المصري الذي وصل حتى مدينة كوتاهيا الواقعة غرب الأناضول، وقال “مَن يغرق يطلب العون حتى من الثعبان!”. وهي الطريقة التي لجأ إليها كذلك أردوغان الذي ما إن مدّ يده إلى “الثعبان” حتى عضّها.
إن مَن قدموا لنا وصف “الرجل العنيف” الذي استخدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوصف نظيره التركي أردوغان، على أنه “مجاملة”، من المؤكد أنهم من اعتقدوا أن السياسة الواقعية عبارة عن مجلة “ماجازين”. لقد خدع بوتين أردوغان رسميًا. ونفهم أن الرئيس الروسي وضع أمام أردوغان مشروع “التيار التركي” للغاز الطبيعي الذي سيجعل من تركيا دولة قوية في مواجهة دول أوروبا. وما إن سمع أردوغان تفاصيل هذا المشروع، حتى ابتلع “الطعم”، لاسيما وأنه يبحث عن طريق للنجاة من ادعاءات الفساد في الداخل والخارج على غرار الحكم المطلق الذي يدير به نظيره الروسي بوتين بلاده. وبدأ يحسب “عدد الطيور” التي يستطيع أن يضربها بحجر واحد؛ إذ خطط الرئيس الروسي لـ”شراء” حليف يمكنه خرق الحصار الاقتصادي المفروض على بلاده. غير أنه ما إن بدأت أخبار انهيار الاقتصاد الروسي تتوالى، حتى أدرك أردوغان أنه لن يستطيع طلب العون من موسكو. والأمرّ من ذلك، أن بوتين في الوقت الذي بدأ يمدح فيه أرودغان لتفهمه للحصار الاقتصادي المفروض على بلاده، يكون قد أفشى سر “شريكه في الجريمة” وباعه أمام الجميع. وهل من الصدفة أن يكون إلغاء مشروع “التيار التركي” أول التصريحات الصادرة عن موسكو فور انهيار قيمة الروبل الروسي؟
لانتحدث في هذا المقام عن بحث تركيا عن سياسة خارجية بسيطة أو فشلها في هذا المضمار، بل نتحدث عن عجز حكومي ارتبط به قَدر شعب بأكمله. فقد وقع أردوغان في خطأ فادح بعدما أدار ظهره إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأقبل بوجهه على نظام بوتين. واعتقد الرئيس التركي أنه بإدارة ظهره إلى الاتحاد الأوروبي سيستطيع أن ينقذ نفسه من القانون والديمقراطية اللذين كانا يقيّدانه. وكان أردوغان قد أمر بشنّ حملة ضد صحيفة زمان اعتماداً على الرئيس الروسي. فماذا عساه أن يفعل الآن؟
يجب أن يكون انهيار الاقتصاد الروسي ومحاولة بوتين “بيع” نظيره التركي بـ”ثمن بخس”، قد غيّرا حسابات أردوغان في الداخل. وكان الشرط الأساسي لمنح حكم ذاتي للأكراد داخل تركيا في إطار المفاوضات التي تجري مع حزب الشعوب الديمقراطية (HDP)، أو بالأحرى حزب العمال الكردستاني (PKK)، والانتقال إلى النظام الرئاسي في الحكم، هو خروج تركيا من محور الاتحاد الأوروبي – الولايات المتحدة، وانضمامها لمحور منظمة شنغهاي للتعاون. ولاشك في أن انهيار هذا السيناريو سيقلب حسابات مفاوضات السلام ومساوماتها رأسًا على عقب.
ثمة نوعان من الحلّ للقضية الكردية، أولهما يجري تنفيذه حاليًا، ويستند إلى التفاوض مع حزب العمال الكردستاني. وأدركنا جميعًا من المفاوضات التي طال أمدها والتجارب الأخرى أن هذه الطريقة ليست إلا عبارة عن طريق يفتح الباب أمام بسط التنظيم سيطرته على رقعة أكبر داخل الأراضي التركية. وثانيهما هو عودة تركيا مرة أخرى إلى إصلاحات الاتحاد الأوروبي، وربط حل القضية الكردية بمعايير الاتحاد الأوروبي، وليس التفاوض مع حزب العمال الكردستاني.
لاريب في أن الهاوية التي تنتظر تركيا في المستقبل ليست سوى النقطة التي ستصل إليها هذه المفاوضات. ولايمكن التوصل إلى نتيجة مفيدة للأكراد والأتراك على حد سواء من هذه المفاوضات التي لاتخدم، بشكلها الحالي، سوى سياسات أردوغان الشخصية.
إن الحرب التي ظهرت بشكل واضح من خلال الاستقطاب الواقع بين أردوغان وحكومته بشأن قطاعي الإنشاءات والتصنيع، تعتبر ساحة صراع حساس للغاية بالنسبة للتوازنات الحساسة للاقتصاد التركي الذي يعتبر على المحك. فطُغمة المقاولين قليلي العدد التي تغذّي سلطة أردوغان، تحُول دون تنفيذ البرنامج الاقتصادي متوسط المدى وسائر البرامج المعلنة الأخرى. كما أن أردوغان لا يتراجع عن “إضرام النيران” بالاقتصاد من أجل حماية شبكة مصالحه الشخصية. أضف إلى ذلك أن روسيا لم تعد تدعمه كما كانت في الماضي.
إن الرئيس التركي يجرّ بلاده نحو حافة الهاوية بسرعة فائقة. ونحن الآن على وشك عبور طريق النجاة الأخير. وليس هناك قوة تستطيع أن توقف هذا التردّي المخيب للآمال سوى القوة التي بين يدي رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو. فهل سيستطيع أن يوقف حافلة تركيا ويمنعها من السقوط في الهاوية؟ فهو أحد الذين يدركون جيدًا ماذا يعني التحالف مع روسيا على المستوى الاقتصادي. ويكفيه أن يلجأ إلى القانون لمواجهة الإجراءات التعسفية في سبيل وقف هذا الجنون. كما أنه ليس بحاجة إلا إلى المزيد من الشجاعة، وإلا سيكون قد فات الأوان، لتسقط تركيا في الهاوية بلا رجعة.