كشف المفكر الإسلامي التركي العلامة محمد فتح الله كولن في أول ظهور إعلامي له، تفاصيل الخلاف بينه وبين أردوغان، وتطوره إلى ملاحقات ومحاكمات لأنصار جمعية خدمة التي يمثلها كولن،وذلك في أول ظهور إعلامي له منذ سنوات، حيث يعرف كولن بقلة ظهوره الإعلامي. وجاء ظهوره بجريدة سود دويتشه زايتونج ـ ثاني أكبر الصحف توزيعا في ألمانيا ـ
وسلّط الحوار الذي أجرته كريستيان سيتشلوتزر، التي عملت مراسلة في تركيا لمدة سبع سنوات، الضوء على معاداة الديمقراطية التي تشهدها تركيا في الآونة الأخيرة. وتطرقت في مستهل الحوار إلى ادعاءات الفساد المتورط فيها مسؤولون كبار من الحكومة، والتي تكشفت وقائعها في 17 و25 ديسمبرالعام الماضي. وأوضحت أن رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان ألقى بالمسؤولية على كولن بسبب التحقيقات التي وصفها الأول بأنها محاولة للانقلاب على الحكومة والإطاحة بها. ولفتت إلى كلمة كولن التي قال فيها إن تركيا تشهد حالة من الاستقطاب على الصعيد الداخلي، بسبب هذه القضايا وتتعرض لعزلة وحالة من فقدان الاعتبار على الصعيد الخارجي.
وفيما يلي مقتطفات من الحوار الذي أجري في شكل سؤال وجواب:
كنتم تؤيدون حزب أردوغان. ما الذي تغيّر فيما بعد؟
قدّم حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه في 2002 وعودًا بإحلال الديمقراطية وحقوق الإنسان وعضوية الاتحاد الأوروبي، والقضاء على الفساد وإنهاء تهميش الأشخاص ذوي التوجهات والأفكار المختلفة والتنمية الاقتصادية. وبصراحة بدأ يتخذ إجراءات تؤكد هذه الوعود وعليه قمنا بدورنا، كجماعة، بدعمه ومؤازرته.
إلا أنه عقب انتخابه للمرة الثالثة في انتخابات 2011 بدأ في اتخاذ إجراءات معاكسة تماما للمكاسب الديمقراطية. فعلى سبيل المثال إذا ما فكرنا في الإجراءات التي أقدم عليها الحزب مثل ممارسة أعمال القمع ضد وسائل الإعلام ومنح جهاز المخابرات صلاحيات كبيرة وتطبيقه الأساليب الشبيهة بما كان يمارسه جهاز أمن الدولة والمخابرات في ألمانيا الشرقية القديمة (ستاسي) والتصرفات التي واجهت المتظاهرين الذين يعترضون في إطار ديمقراطي والكثير من الإجراءات المشابهة لذلك سيظهر لنا عندئذ عودتنا للوراء في المكاسب الديمقراطية.
وفي نهاية المطاف أعلنتني الحكومة بأنني عدو لها؛ حتى يتم التستر على أعمال الفساد ويتم تأسيس كيان استبدادي. إلا أننا لدينا مثل تركي يقول “إن شمعة الكذاب لا تشتعل بعد وقت العشاء” (أي إن عمر الكذب قصير جدا).
ساندتم أردوغان في تقليص نفوذ الجيش في تركيا. هل هذا أصبح من الماضي؟
إن الطغمة العسكرية أقدمت على عمل أربعة انقلابات في أعوام 1960، 1971، 1980 و1997. وإن الحكومات التي جاءت إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات تم إسقاطها بتلك الانقلابات. وتمت مساءلة عشرات الآلاف من الناس والزج بهم في السجون وعُذب أغلبهم أثناء الإدارات الانقلابية. وشهدت تركيا أحداثا لا يمكن أن يصدقها العقل خلال مرحلة ترشح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. وقُدِّم موضوع محاكمة الضباط الذي تولوا الانقلابات العسكرية في محاكم مدنية عبر استفتاء في عام 2010 لإدخال تعديلات على الدستور للتمكن من القيام بذلك. وأيّد 58 بالمئة من الشعب التركي هذا القرار.
وبعد التخلص من الوصاية العسكرية مباشرة، تم تشكيل وصاية حزبية أسستها الحكومة مع إلغاء استقلالية القضاء وذلك عقب ربط كل شيء بالجهاز التنفيذي وإلغاء دور ومهام هيئات الرقابة. ومثلما عارضنا الوصاية العسكرية في وقت من الأوقات فنحن نقف اليوم أيضًا ضد الوصاية الحزبية. ولهذا السبب تم وصفنا بأننا خائنون.
إلى أين تسير تركيا؟
إن الجمهورية التركية أصبحت في الآونة الأخيرة دولة حزبية تتخلف عن أن تكون دولة ديمقراطية وعلمانية ودولة قوانين اجتماعية، لدرجة أنها تعطي انطباعا بأنها آلت إلى وضعية دولة يحكمها رجل واحد. إن تركيا اليوم تشهد حالة من الاستقطاب على الصعيد الداخلي وعزلة وفقدان اعتبار على الصعيد العالمي. وأنا أشعر بحزن بالغ لهذا الموقف الذي آلت إليه بلادي.
أردوغان يقول إنه يرغب في تنشئة جيل ذي طابع متدين. ألا تريدون أنتم أيضًا الشيء نفسه؟
لا يمكن أن تكون مهمة الدولة هي تنشئة جيل يحمل طابعا متدينا. لأن ذلك يحمل في طياته إجبار وإكراه الذين يفكرون عكس ذلك. كما أن الحرية الدينية تدخل ضمن الحقوق الإنسانية الأساسية. وأرى أن الحكومة عليها أن تمهد أرضية ملائمة لجميع المواطنين أيّا كان دينهم ليمارسوا معتقداتهم ويعلموها لأبنائهم.
والذي كان يأمل الناس من أردوغان هو حمايته لهذه الحقوق من خلال تعديلات قانونية من أجل المجتمعات التي تمثل أقليات دينية كرئيس السلطة التنفيذية وذلك أثناء فترة حكمه البالغة 12 عاما التي سيطرت فيها السلطة التنفيذية. والمناقشة مفتوحة أمام القيام بذلك أو عدمه. وعلى الإنسان المتدين ألا يتنازل عن الحقوق والعدالة. وأنا أود أن يكون هناك جيل متدين وفقا لهذا المعنى. لكن إذا كان المقصود هو جيل ليس له دراية بدينه ويسعى لبث الفتنة بين طبقات المجتمع وتفرقته ونثر بذور الفتنة بينهم بكل سهولة. ستكون إجابتي على هذا صريحة وواضحة..لا وكلا.
ما تعليقكم على قصر رئاسة الجمهورية الجديد لأردوغان “القصر الأبيض”؟
كل دولة لديها الحاجة إلى مبان لتمثيلها. إلا أنه كان يمكن توسيع المباني الموجودة حاليا بدلا عن تشييد قصر يضم ألف غرفة. وكانت المحكمة ستوقف تشييد القصر لولا تدخل أردوغان في هذا الموضوع والحيلولة دون هذا القرار. وإن مثل هذه الإجراءات تنقص احترام المواطن للقوانين والعدالة. وبالمناسبة فإن أبهى وأترف قصور العثمانيين شُيّدت في فترة تدهور وسقوط الدولة. واليوم نرى أن الكثير من مكاتب رؤساء الجمهوريات في العالم تقع في مبان متواضعة للغاية.
أردوغان يزعم أنكم كجماعة الخدمة تسربتم إلى مؤسسات الدولة، ما تعليقكم على ذلك؟
إن مواطن بلد ما لا يتسرب إلى مؤسسات بلده. هذا وصف خاطئ لكنه يدخلها ويقدم خدمته لبلده. ويمكن لكل من يتوفر فيه الشروط المطلوبة أن يصبح موظفا في الدولة. لكن هل الذي يزعجهم في ذلك هو عدم مبايعة هؤلاء لهم وعدم انصياعهم لقراراتهم الشخصية؟!
لكن النظام السياسي الحالي لم يصنف فقط المحبين من الموظفين لحركة الخدمة ضمن الفئات التي يزعمون أنها تضر بالدولة بل طال هذا التصنيف كل من يقف بعيدًا عن الحكومة أو يرغب في عدم المشاركة في أي من فعالياتها. وهذا ما سمّي بـ”مطاردة الساحرات”.
كم هي نسبة الموظفين المفصولين من وظائفهم الذين ينتمون إلى حركة الخدمة؟
أنا لا أعرف حتى 10 بالمئة من الأشخاص الذين ينتمون لحركة الخدمة. ومع مرور الوقت سيعرف الجميع أن معظم رجال القضاء والأمن والمعلمين ليسوا على علاقة بالحركة. ومن المحتمل أن يكونوا قد فعلوا كل ذلك لدافعين مختلفين. أولهما: أنهم يحاولون إظهار حركة الخدمة على أنها تهديد كبير وذلك من خلال تصنيف شخصيات عديدة لانتمائها للحركة. وثانيهما: رغبتهم في القضاء على كل من لم يقدم البيعة لهم. كما اعترف بذلك أحد الشخصيات البارزة داخل حزب العدالة والتنمية في الفترة الأخيرة.
ما تعليقكم على أعمال الفساد؟
لم يعرف أحد حقيقة الأمر بسبب عدم تفعيل العملية القانونية والحيلولة دون مواصلة التحقيق في القضية. ولو حدث مثل هذا في الغرب لانقلبت الحكومات إزاء هذه الاتهامات. إلا أن أنقرة وصفت هذه التحقيقات على أنها مؤامرة دولية ضدها وهي العادة المتبعة دائمًا لدى الأنظمة الاستبدادية.
هل تعرضت حركة الخدمة لفقدان في قوتها؟
لا يمكن أن ننكر أن مفهوم حركة الخدمة مسّه الضرر لدى المجتمع بشكل عام نتيجة حملات التشويه والافتراءات الموجهة ضد الحركة عبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة. إذ إنهم يرعبون الناس من إرسال أولادهم إلى مدارس الخدمة المعروفة بجودتها وكفاءتها وعدم تقديم التبرعات للجمعيات المساعدة التابعة للحركة. وأرى أنه لا شك في أن تأثير هذه الحملات السوداء المبنيّة على أكاذيب وافتراءات على المجتمع سينقلب ضدهم عمّا قريب بمجرد الكشف عن أكاذيبهم.
وصفكم سفير أمريكي سابق بـ “الشخصية الثانية الأكثر أهمية في تركيا”، ما تعليقكم على هذا؟
إن الذين يعرفونني من قريب أو بعيد يعرفون شخصيتي جيدًا، إذ إنني لم أرغب في أي فترة من فترات حياتي أن أكون رجلا ذائع الصيت ويلهث وراء الشهرة. ولم أحاول قط أن أحصل على مصلحة شخصية سواء كانت ماديةً أو معنوية. وحياتي البالغة 76 عاما خير شاهد ودليل على ذلك. وإذا كانت هناك نجاحات لهذه الحركة يمكن التصفيق لها فيجب أن تنسب إلى هؤلاء الناس الذين أخلصوا في حبهم ورسالتهم في الحركة.
هل ستستمر حركة الخدمة بعدكم؟
حتى الناس الذين لا يتشاطرون معنا ولو بنسبة واحد بالمئة وجهة نظرنا في الحياة قاموا بدعمنا. ذلك لأن الفكرة المشتركة بيننا كانت ولاتزال هي القيم الإنسانية. فهناك أناس لم أتعرف عليهم قط في إفريقيا قدموا مساعدات مادية لمدارسنا ومستشفياتنا. وهم أناس أغنياء لاننتظر منهم أي شيء. وكلما ولجت فراشي سرعان ما أفكر في أنني قد لا أستيقط مرة أخرى. إلا أنني لا يراودني أدنى خوف أو قلق فيما يتعلق بمستقبل هذه الحركة.
هل تفكرون في العودة إلى تركيا؟
أتحرق شوقًا لبلدي. فأنا إنسان عاطفي. إن أهلي وأقاربي وأصدقائي في تركيا. وأنا لم أنعزل أصلا عن أصولي وجوهري. وقد توفي أخي قبل أسبوعين، وللأسف الشديد لم أتمكن من حضور جنازته. ولم أحضر جنازة أحد أقاربي من قبل. أمضيت 60 عاما من عمري في تركيا. وأنا كإنسان عاطفي ذي مشاعر جيّاشة لدي تعلق قوي بالأماكن والمناظر والأشياء. وعندما تلوح أمام عيني مشاهد لقريتي” كوروجوك” حيث قبر أبي وجدي وجدتي ومنزلي الذي أقمت فيه سنين طويلة وفي كل زاوية من زواياه ألف ذكرى وذكرى تخصني لا أتمالك نفسي من سكب العبرات علّها تهوّن علي غربتي وحزني. لكن إن عُدت إلى تركيا في هذه الفترة قد يستخدمني بعض الناس من الرتب العالية الموجودة في الدولة من أجل نواياهم السيئة.
هل تفكرون في المصالحة مع أردوغان؟
لسنا نحن من بدأ هذه الخصومة. لذا ينبغي عليهم أن يتخذوا الخطوة الأولى للمصالحة. وإذا قال أردوغان يوما إن ما قاله عن حركة الخدمة في جميع اجتماعاته عبارة عن أكاذيب وافتراءات سأجنح أنا أيضًا إلى السلم والمصالحة.
هل هناك شيء يسعدكم بالرغم من كل ما يحدث؟
أنا لم أشعر قط بسعادة طويلة الأمد. إذ تمت متابعتي في تركيا عقب كل انقلاب عسكري. إلا أن ما أشعر به الآن أكثر وطأة بالرغم من كل شيء. لكن الطرف الرائع والجميل فيما يحدث هو أن الألماس بدأ ينفصل عن الفحم شيئًا فشيئا. وبات العالم يعي ويدرك جيدًا حقيقة حركة الخدمة.