علي يورطاجول
رأى العالم أجمع أن فريقاً مستعداً لفعل كل شيئ لتشكيل إدراك زائف بأن ما حدث في تركيا في مثل هذه الأوقات من العام الماضي عبارة عن “انقلاب وليس هناك فساد” وإشباع رغبته في الانتقام من الواقفين وراءه لن يتردّد في دهس حرية الصحافة وتلطيخ سمعة البلاد أمام الجميع.
إن حزب العدالة والتنمية ما عاد يتطلع إلى الغرب بل أصبح يتطلع إلى موسكو وطهران والشرق. وإن تغير المحور ليس بجديد بل إن فريق أردوغان يدافع عن ذلك علناً. فاستمعوا لما يقوله أستاذ الشريعة خير الدين كرامان المقرب من أردوغان: “إذا انزعجت أمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهما فذلك يشير إلى أن تركيا في الطريق الصحيح” (يني شفق 31 أكتوبر/تشرين الأول 2014). ولأن الأستاذ كرامان يتمتّع بأهمية كبيرة في وقت بدأ فيه حزب العدالة والتنمية يستعيد توجّهه السابق المتمثل في فكرة حزب الرفاه بسبب إصداره فتاوى من قبيل “إن الفساد ليس سرقة” في إطار تعليقه على تحقيقات الفساد والرشوة، فإنني أرى أن التركيز على آرائه سيسلط الضوء على بعض قضايا الساعة. لنحاول الآن تناول مقوّمين سياسيين أساسيين لتركيا لعل ذلك يسلّط الضوء على تغير المحور الحادث في توجه الحزب الحاكم.
إنكم تعلمون أن حلف شمال الأطلسي الناتو الذي تأسس في سنة 1949 بعد الحرب العالمية الأولى كان منظمة تدافع عن الجبهة الغربية في البنية السياسية للعالم المكوَّن من معسكرين رئيسين. ولم تكن الدول الـ12 المؤسسة للحلف ولا سيما إنكلترا ترحب بانضمام تركيا إلى الحلف لئلا تعيش مشكلة مع الاتحاد السوفييتي. وكما يجرب الاتحاد الأوروبي اليوم الشراكة الامتيازية مع بعض جواره، فقد أراد ربط حلف بغداد وتركيا بالناتو دون أن ينالا العضوية فيه لمنع مشاركتهما في اتخاذ القرارات فيما بعد. ولكن هذه العضوية قد تحققت بفضل إصرار جلال بايار وعدنان مندريس واشتراطهما العضوية في الناتو لإمكانية أي تعاون عسكري بين الطرفين. وإن إلقاء نظرة على تاريخنا القريب يكفي لمعرفة مدى أهمية هذا القرار الأساسي والاستراتيجي بالنسبة لتركيا. فالناتو أحد أهم الأسس السياسية في حماية تركيا.
وكما أن هذا القرار الأساسي الذي اتخذته تركيا مع الناتو جعل تركيا عضواً مؤسساً في اللجنة الأوربية، وأجبر تركيا على اتخاذ قرار من أجل الامتثال للبنية السياسية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي. وفي أواخر خمسينيات القرن الماضي اتخذت قرارا لمصلحة السوق الأوروبية المشتركة ومسيرة التاريخ أثبتت صحة هذا القرار. ولا داعي للتفصيل في سرد هذه الأحداث. لقد أصبحت “رابطة التجارة الحرة الأوروبية” و”مجلس التعاون الاقتصادي” من الأحداث التاريخية الماضية، وإنكلترا عضو في الاتحاد الأوروبي، والرئيس الروسي بوتين لا يستطيع ضمّ حتى جورجيا إلى المنظمة الجمركية الشبيهة بمجلس التعاون الاقتصادي ما عدا أرمينيا وقازاخستان. أرجو منكم أن تسجّلوا هذه الملاحظة: إن توقيع روسيا أيضاً على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي مسألة وقت فقط. ولكن “الخبراء” الاقتصاديين حول أردوغان يرون روسيا بديلا عن الاتحاد الأوروبي، لأنهم لا يقرؤون الأرقام بشكل صحيح، ولأنهم مفتونون بالرئيس الروسي بوتين. وعلى كل إذا كان الناتو هو المقوّم الأساسي في حماية تركيا سياسيا، فإن عضويتها في الاتحاد الأوروبي هي المقوم الأساسي في حماية تركيا اقتصادياً. فالاتحاد الأوروبي أمر حيوي بالنسبة للاقتصاد التركي ليس فقط لأنها تمثل 50% من سوق الصادرات، بل لمكانتها المرموقة في الصناعة والقطاع الخدمي أيضًا.
أما حزب العدالة والتنمية فمشغولٌ هذه الأيام بهدم هذين المقومين الأساسيين. وثمة فريق مؤثر في هذا الحزب يعيد النزاع من جديد مع الاتحاد الأوروبي، وينظر إليه نظرة ثقافية وبعبارة أخرى نظرة دينية ويرى مستقبل تركيا في الوحدة الإسلامية. واسمعوا ماذا يقول أستاذهم وعقلهم المدبر كرامان في المقال نفسه الذي قال فيه إن تركيا لايمكن أن تصبح مثل إيران ولكنه أضاف: “وحتى إن كانت تركيا تسير بخطىً حثيثة لتكون مثل إيران فلا يمكن لمسلم أن ينزعج من ذلك”.
ولا يختلف تفكير خير الدين كرامان عن تفكير يكيت بولوت وهو أيضًا من العقول الملهمة للرئيس أردوغان. إذ إنه يقول: “لقد عانت تركيا الكثير من المصاعب والمشاق الناجمة عن الاتحاد الأوروبي وامتداداته فقط لكي لاتنقطع عن العالم الغربي. وبذلك تحولت إلى أداة وأُهينت وتشوهت صورتها. أما اليوم فهي لا تحتاج إلى الاتحاد الأوروبي”. وأضاف: “تركيا ستنظر أمامها وتقطع علاقتها بالاتحاد الأوروبي دون أن تضيع مزيدا من الوقت”. وهو بقوله هذا يتخيل أن تركيا هي التي تتتحكم في موازين القوى في العالم. (ستار 9/4/2014).
تبدو تركيا في ظل السياسات الداخلية والخارجية لحكومة العدالة والتنمية تتصرّف وكأنها علّقت عضويتها في حلف شمال الأطلسي” ناتو” ومفاوضات العضوية في الاتحاد الأوروبي وحطّمت جسور التواصل معهما. ولايمكن لهذه السياسة أن تستمر طويلا أو تجد دعماً شعبياً. وربما ستحتاج لإعادة بناء أسس الجمهورية التركية للتصدي لهذه المغامرة التي كانت فاتورتها السياسية والثقافية باهظة جدا. ولابد من التصدي لما ينتج عن الأفكار العمياء التي تخالف الحقائق.
ولاشكّ في مغامرة مثل هذه وليدة إيدولوجية عمياء تسعى لإعادة بناء وتصميم أسس الجمهورية التركية ستصطدم بجدران الواقع والحقائق الملموسة إن عاجلاً أم آجلاً.