عبد الحميد بيليجي
كان السياسي الألماني دانيال كون بينديت، الذي يحمل لقب “داني الأحمر” ويعتبر أحد أبرز الشخصيات في تاريخ الكفاح من أجل الحقوق والحريات، يحمل آمالًا كبيرة بالنسبة لتركيا التي كانت بمثابة نجمًا يتلألأ في عالم الديمقراطية قبل 10 سنوات. وكان بينديت يأتي على رأس قائمة أكبر الشخصيات الداعمة لإنجاح مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بعدما أطلق عليها اسم “معجزة البوسفور”.
كان بينديت ينظر إلى الإصلاحات التي أقدم عليها حزب العدالة والتنمية في سبيل تحقيق هذا الهدف، على أنها “ثورة صامتة”، وكان أحد أكبر داعمي أردوغان في مواجهة أعدائه المتعصبين في أوروبا وتركيا، على حد سواء، وكان يقول: “إن تحقيق معجزة البوسفور ليس حلمًا إذ علينا جميعًا أن نعمل بكل جهد للوصول إلى ذلك الهدف وآمل أن ننجح في مهمتنا في غضون 10 أعوام”.
حسنًا، إلى أين وصلنا بعد مرور 10 أعوام؟ كان أفضل مَن شرح لنا المرحلة التي وصلت إليها تركيا هو الاسم نفسه، بينديت، الذي قال في تصريح له أدلى به قبل أشهر عدة، إن حزب العدالة والتنمية أعلن أن كل مَن لا يدعم أردوغان في تركيا يعتبر “خائنًا”، وكان يقول: “إذا لم يعلنكم أردوغان اليوم خونة فهذا يعني أنكم لستم ديمقراطيين”.
فكرت في هذه الكلمات المتناقضة مع بعضها بعضا التي قيلت قبل 10 سنوات وبعدها، بينما كانت الشرطة تداهم مقر جريدتنا، جريدة” زمان” أمس الأول الأحد، لاعتقال رئيس تحريرها أكرم دومانلي.
كنا قد شعرنا، بصفتنا كادر جريدة” زمان”، بحماسة كبيرة، ككل أنصار الديمقراطية في تركيا والعالم بأسره من أجل تحقق المعجزة التي تحدثوا عنها وتحوُّل تركيا إلى دولة ديمقراطية وفقًا للمعايير الأوروبية. ولهذا قدمنا الدعم للخطوات الديمقراطية التي أقدمت عليها تركيا تحت قيادة أردوغان وافتدينا الديمقراطية بأرواحنا في مواجهة أعدائها الذين أرادوا وأدها في مهدها.
واليوم، في الوقت الذي تئنّ فيه جريدة” زمان” رافعة شعارات “لا يمكن إسكات الصحافة الحرة”، أتذكر المقالات التي كتبتُها والخطابات التي ألقيتها للدفاع عن أردوغان عندما انتشرت ضده اتهامات قبل 10 سنوات من قبيل ” في الواقع هو لم يتغيّر بل لديه أجندة سرية”.
هل أصبحت نادمًا لدعمي الإجراءات التي قام بها حزب العدالة والتنمية في طريق الديمقراطية أو لدعمي أردوغان عندما تعرّض لمعاملات غير ديمقراطية بدءًا من دعوى إغلاق حزبه وصولًا إلى محاولات الانقلاب على حكومته؟ لا لم أندم. ذلك أن الأعراف الديمقراطية كانت تقتضي أن أكون كذلك في ذلك الوقت. يضاف إلى ذلك أن شخصيات مثل “داني الأحمر”، حسن جمال، شاهين ألباي، أرجون أوزبودون، هاشم كيليتش وأكرم دومانلي وغيرهم حذوا الحذو نفسه ذلك اليوم.
عندما قمنا بما يقع على عاتقنا من مسؤولية تجاه ديمقراطيتنا في ذلك اليوم، مِن أين لنا أن نعرف أن أردوغان سيسعى لتعليق الحقوق والحريات ما إن تنتقل القوة إلى يديه وأنه سيحوّل وجهة بلاده عن الاتحاد الأوروبي صوب الأنظمة القمعية وأنه سيطلق لفظ “الخونة” على كل من يرصد أخطاءه وأنه سيمارس ضغوطًا على مسؤولي وسائل الإعلام من أجل إسكات الإعلام وأنه سيصدر تعليمات بشنّ عمليات دهم ضد الصحف والقنوات التليفزيونية فقط لأنها تمارس نشاطها الإخباري وأنه سيوقف جميع آليات الرقابة في البلاد بدءًا من ديوان المحاسبة وانتهاء بالهيئات القضائية من أجل التستر على فضيحة الفساد والرشوة، وأنه سيصل به الحال إلى أن يخاطب الاتحاد الأوروبي بقوله “اهتم بشؤونك”! بعدما انتقد الخطوات غير الديمقراطية التي أقدم عليها بالرغم من وعوده بالنهوض بتركيا ديمقراطيًا وفق معايير الاتحاد الأوروبي؟ ماذا عسانا أن نفعل؟ لقد خُدعنا جميعًا!
أشعر بالندم لانتقادي الكاتبة الصحفية التركية نوراي ميرت عندما حذّرتنا قبل 5 سنوات من “الاستبداد المدني”، من خلال رؤية صائبة، بدلًا عن أن أحاول فهم ما أرادت أن تقول. والآن، أعتذر منها ومن كل شخص لم أستطع التعاطف معه بالقدر الكافي من خلال مقالاتي وكلماتي، حتى ولو كان ذلك من خلال الاعتقاد بكفاحنا من أجل الديمقراطية.
بالرغم من أن الإساءة والظلم والافتراءات التي تعرضت لها حركة الخدمة، كأشخاص ومؤسسات، في الآونة الأخيرة، مؤلمة جدًا، يمكن أن نتحمّل هذا الأذى. ولكن ما يزيد كدرنا وهمّنا هو فضْح بلدنا الجميل تركيا أمام العالم بأسره بسبب هذا الهراء الذي لايتسق مع القانون والديمقراطية بأية حال من الأحوال. فلا يصدق أحد حول العالم أكذوبة “الكيان الموازي” التي يروّج لها “إعلام العار”.
ليس هناك أدنى علاقة بين ما يحدث وبين الصراع بين حزب العدالة والتنمية وجماعة الخدمة. فتركيا تحيد عن طريقها باتجاه أن تكون دولة ديمقراطية يسود فيها القانون، وكل شخص يأخذ نصيبه من هذه الوتيرة المؤسفة. كما أن التقرير الأخير لمؤسسة فريدوم هاوس بشأن الديمقراطية معلوم للجميع، حيث جاءت تركيا في تصنيف الدول المحرومة من حرية الإعلام.
إن أكبر سلوى لنا في هذه المرحلة هو الدعم الذي يقدمه لنا أشخاص لا يشاطرونا الأفكار نفسها، عقب الحملة التي شنتها الشرطة على مقر جريدتنا. وأؤمن بأنه إذا منح الموقف الشجاع الذي ظهرت عليه مجموعات زمان وإيبك وسامان يولو الإعلامية، الجرأة للإعلام المعارض الذي يسيطر عليه الخوف، وساهم في تعزيز وعينا تجاه الديمقراطية، فإن الأزمة ستتحوّل – بإذن الله – إلى فرصة ذهبية.