بقلم: عبد الحميد بيليجي
يتضمن الدين الإسلامي أحكامًا مفصلَة في جميع المواضيع بدءًا من حياة المؤمن الخاصة، مرورًا بعبادته وتجارته، وانتهاءً بالأمور المتعلقة بالآخرة. وإذا اطلعنا على أي كتاب فقه تقليدي سنرى أن هذه الكتب تناولت بإسهاب موضوعا كالرهْن مثلا. وأنها تطرقت للحديث بشكل مفصَّل عن الفروق الدقيقة بين وجهات نظر المذاهب المختلفة فيه.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن لم يكن في الإسلام أحكام صريحة في بعض المواضيع مثل النظام السياسي ونظام الانتخابات ففيه مبدأ أساسي لابد منه في نظام الدولة، ألا وهو العدل. لم يكن الله يريد من المؤمنين أن يتبنوا نظاما سياسيا بعينه، لكن أمرهم بإقامة العدل في كثير من آيات القرآن الكريم.[/box][/one_third]تناول الدين الإسلامي جميع المواضيع والمسائل بشكل مفصَّل، إلا أنه ترك موضوع الأنظمة السياسية إلى فهم المؤمنين بحسب زمانهم والظروف المحيطة بهم، حيث يمكن للناس أن يدافعوا عن أحد الأنظمة السياسية مثل الملكية أو الديمقراطية أو الأرستقراطية أو غير ذلك، ويجدونها ملائمًة أو قريبة لروح الإسلام بشكل أكبر. ولا يمكن أن ننظر إلى من يدافع عن وجهة نظر مخالفة لفكرتنا على أنه “مارق” عن إطار الدين. هذا فضلًا عن أن الخلفاء الراشدين تم اختيار وتنصيب كل واحد منهم بطريقة مختلفة، ولم تُتهم واحدة من عشرات الدول في التاريخ الإسلامي التي تأسست منذ عهد الأمويين وحتى زمان العثمانيين بأنها كانت خارجة عن إطار الإسلام من جانب أغلبية من الناس. واليوم لايدّعي أحد أن الديمقراطية تعتبر نظام حكم خارجا عن إطار الإسلام. وإن كان هناك بعض الآراء المخالفة في هذا المقام.
مع ذلك لايخفى على أحد أن الأنظمة السياسية في تركيا وجميع أنحاء العالم تدور حولها نقاشات من الناحية الدينية أيضا عبر التاريخ. بالضبط كما رأينا أن بعض علماء الدين في آخر عهد الدولة العثمانية اعتبروا نظام المشروطية والدستور والإجراءات التي تقرّ الحريات تتعارض مع روح الإسلام. لكن شهدنا خلال الحقبة نفسها ظهور علماء مثل بديع الزمان سعيد النورسي عارضوا الحكم الاستبدادي والاضطهاد. وكتبوا مقالات نُشرت بالصحف أثبتوا فيها أن المشروطية لاتتعارض مع الإسلام من خلال أدلة مستقاة من مصادر فقهية تقليدية. وكان النورسي يخاطب المنتسبين إلى المدارس الدينية في محاولة منه لإقناعهم بهذه الفكرة.
إن لم يكن في الإسلام أحكام صريحة في بعض المواضيع مثل النظام السياسي ونظام الانتخابات ففيه مبدأ أساسي لابد منه في نظام الدولة، ألا وهو العدل. لم يكن الله يريد من المؤمنين أن يتبنوا نظاما سياسيا بعينه، لكن أمرهم بإقامة العدل في كثير من آيات القرآن الكريم. كما يرد في هذه الآية الكريمة التي نسمعها في كل جمعة أثناء الخطبة “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل – 90).
والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الحكام العادلين من بين الذين سينجون في الآخرة، يوم الحساب العظيم، والصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي يعد رمزا للعدل في الإسلام كان يقول: “العدل أساس الملك”. ولذلك كان وجود العدل من عدمه هو الأهم من شكل نظام الحكم وطريقة إدارة الدولة.
ألا تبرهن لنا الدعوى الشهيرة التي حوكم فيها السلطان محمد الفاتح مع معماري نصراني على أن العدل كان من الأسباب الأساسية التي جعلت الدولة العثمانية مزدهرة وفي مكانتها المرموقة بين الدول في عهده وجعلتها تدوم طوال العصور العديدة؟ حيث يروى أن السلطان محمد الفاتح حكم في معماري حكما (في حالة غضب منه) ونفذه دون محاكمته (قطع يده) فأخذ المعماري يبحث عن حقه. فلما استمع قاضي إسطنبول ورئيس بلديتها السيد خضر إلى شكواه ودقق النظر في القضية استدعى السلطان محمد الفاتح مع شهود الحادث إلى المحكمة. فدخل السلطان قاعة المحكمة وأراد أن يجلس في الركن الرئيس بالقاعة لكن القاضي لم يسمح له بذلك. وقال: “لاتجلس ياسيدي! قف في حضرة المحكمة لتواجه خصمك!”. فانتقل السلطان الفاتح فورًا إلى المكان الذي أشار إليه القاضي. وأصدرت هيئة المحكمة حكمًا ضد السلطان إذ تبين أنه ظلم خصمه. ولو لم يكن المعماري النصراني قد عفا عنه لكانت يد الفاتح قد قُطعت بحكم المحكمة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]علينا ألا ننسى أن مصدر احترام الدولة العثمانية لم يكن قصورها أو لغتها، بل هو العدل الذي أقاموه لدرجة مكّن عريفًا من أن يدير شؤون مدينة كالقدس التي يعيش فيها أناس من الأديان واللغات المختلفة في أمان وسلام. ولاشك في أن القصور التي بنيت عندما كانت الدولة العثمانية فقدت مفهوم العدل، لم تُعِد لها مكانتها المعتبرة، بل أضحت وبالًا عليها.[/box][/one_third]لقد تأثر المعماري من هذا التصرف العادل فاعتنق الإسلام وعفا عن السلطان الذي قال للقاضي السيد خضر بعد انتهاء المحاكمة: “لو كنت قد خشيت سلطتي وأصدرت حكمًا ظالمًا، لكنت والله قطعت رقبتك بسيفي هذا!” فأخرج السيد خضر صولجانًا كان يخفيه أسفل كرسيه وقال: “لو كنت قد اعتمدت على سلطتك ولم تقبل قرار المحكمة لكنت قد سحقت رأسك بهذا الصولجان!”.
هناك العديد من الدول في بلاد المسلمين، منها الإسلامية والعلمانية والملكية والديمقراطية. لكن عدم إقامة العدل مشكلة مشتركة فيما بينهم. وفي الوقت الذي حلّت فيه نيوزيلندا ولوكسمبورج وإيرلندا في المراكز الثلاثة الأولى في مؤشر المعايير الإسلامية المعَدّ وفق معايير كالحريات الأساسية والعدل وحقوق الإنسان، جاءت تركيا في المرتبة 103 وإيران في المرتبة 163. وهذا إن دل على شيئ فإنه يدل على أن المسلمين نسوا القيم والمبادئ الموجودة في أصول دينهم واتجهوا إلى الاهتمام بالمظهر دون الجوهر. ولن نستغرب من هذا التصنيف والمركز الذي حلّت به تركيا إذا ما نظرنا إلى استمرار حرمان أصحاب الهويات المختلفة من حقوقهم الأساسية. وما حدث لمسؤولي قطاعي القضاء والشرطة لتحقيقهم في ادعاءات الفساد المستندة إلى وثائق قوية، وما تعرض له رجل أعمال بسبب أفكاره بالرغم من امتلاكه منجما هو أكثر المناجم أمانًا وأعلاها من حيث المواصفات في البلاد، وتعيين المقربين من الشخصيات المهمة في الوظائف لدى الدولة دون اختبار، وما تعرضت له إحدى المؤسسات الخيرية التي اجتازت جميع التفتيشات دون أي خطأ قانوني.
ينشغل الرأي العام في تركيا هذه الأيام، مرة ثانية، بالحديث عن الدولة العثمانية، وذلك بمناسبة القصور الفارهة التي يدور جدل حول شرعيتها، وكذلك تدريس اللغة العثمانية (المكتوبة بالحروف العربية) التي تخطط الحكومة لإدراجها في المقرر الدراسي لفرض تعليمها بالمدارس. فلنستلهم أفكارنا من العمارة العثمانية، ولنعلِّم اللغةَ العثمانية شبابنا عن طريق تحبيبهم فيها لا بإرغامهم وإكراههم على تعلمها.
لكن علينا ألا ننسى أن مصدر احترام الدولة العثمانية لم يكن قصورها أو لغتها، بل هو العدل الذي أقاموه لدرجة مكّن عريفًا من أن يدير شؤون مدينة كالقدس التي يعيش فيها أناس من الأديان واللغات المختلفة في أمان وسلام. ولاشك في أن القصور التي بنيت عندما كانت الدولة العثمانية فقدت مفهوم العدل، لم تُعِد لها مكانتها المعتبرة، بل أضحت وبالًا عليها.