بقلم:أكرم دومانلي
كتب العالم التركي المعروف خير الدين كارامان مقالا الأسبوع الماضي قال فيه: “سينزل علينا بلاء من السماء” (حفظنا الله)، وهو الذي توجهَّت إليه أصابع الاتهام بشأن إصدار فتاوى تبيح “التبرعات” مقابل الفوز بالمناقصات. ويقال إنه فتح بذلك الباب أمام تلقي الرشاوي في مؤسسات القطاع العام.
لقد تعجب الجميع من هذه العبارة التي أطلقها الأستاذ كارامان، حتى أن هناك من تابع توجّيه الاتهامات إليه. ولكن علينا أن نأخذ هذا التحذير على محمل الجد.
بدأ العالم والكاتب المقرَّب من حكومة حزب العدالة والتنمية تحذيره بعبارة: “يأيها الذين يمسكون زمام إدارة الدولة في أيديهم (في تركيا)!”. وقد شدّد على ضرورة محاسبة الذين يأكلون حقوق الفقراء. وأرى أن هذا الموقف صحيح وصائب، بل أقول يا ليته قالها قبل أشهر.
نشهد في الوقت الراهن توجيه تحذيرات وتنبيهات متشابهة تباعًا إلى حكومة حزب العدالة والتنمية. وكان الأستاذ جواد أكشيت قد وجّه تحذيرات شديدة اللهجة إلى الحزب بقوله مقسما بالله: “ستنزل علينا اللعنات من السماء!”. وعدّد وقائع الرشوة وبعض الجرائم الأخرى. ولاشك في أن هذه التحذيرات لاتصدر هكذا من دون داعٍ، فالمجتمع في تركيا يغلي على صفيح ساخن بشكل خفي. فمن ناحية نشاهد الفقراء والمعوزين لايقدرون حتى على شراء الأحذية المطاطية السوداء لارتدائها. ومن ناحية أخرى نرى القصور الفخمة التي يبلغ عدد غرفها أكثر من ألف غرفة، وثمن الكأس الواحد فيه ( 1000 ليرة ) أكبر من الحد الأدنى للأجور في تركيا (ويبلغ الحد الأدنى الصافي 864 ليرة تركية أي ما يعادل 393 دولارًا أمريكيًا)! ومن جهة يعيش ملايين على حد الكفاف، فيما يُنزِل آخرون سفنًا إلى البحر تقدَّر بملايين الدولارات!
اسمعوا ماذا يقول موظف كان يعمل حتى وقت قريب في إحدى المؤسسات الحكومة الحساسة في تركيا، ويدعى علي نور كوتلو: “حوسبنا من حيث لاندري. حوسبنا على الأموال والمناصب والمواقع… ولقد رسب أبناء هذه الدعوة في الاختبار وغرقوا في الذنوب والآثام وسيطرت عليهم الغفلة. لكنهم آمنوا بالله العفو الغفور الرحيم الكريم…”
يبدو من هذه الكلمات أن هناك مشكلة أوهنت القلوب وأوجعت الضمائر. أما الكاتب الصحفي يوسف كابلان، الذي يكتب في صحيفة” يني شفق” (المؤيدة لحزب العدالة والتنمية) فيقول الحقيقة بشكل أوضح وبشجاعة أكثر: “نشهد عملية نتحلّل فيها ونفسد، فالكل في أنقرة يتابع أعماله ومصالحه الشخصية، وهذه طامة كبيرة!”. فيما صرخ النائب السابق بالبرلمان شوقي يلماظ بقوله: “أخشى أن يحل علينا بلاء كبير بسبب ما سمعته ورأيته بشأن خيانة الكفاءة والأمانة (في التوظيف) في الأماكن التي زرتها لحضور المؤتمرات”.
يصرخ العشرات بقولهم: “تركيا تسير نحو الهاوية بتزايد حوادث الفساد والسرقة والرشوة وعدم الكفاءة وغير ذلك”. يشعر الواحد منا بألم يعتصر كبده؛ إذ إننا نشاهد ذهاب المكاسب التي تحققت نتيجة بذل جهود جبارة أدراج الرياح من خلال استهتار كبير. ينبغي أن يكون الإنسان أعمى حتى لايدرك أن التصرفات الخشنة والرعناء والمبادرات “المتعصبة” لاتجعل المجتمع في تركيا يشعر ببرودة وكراهية تجاه حزب سياسي فقط، بل تجعله ينفر ويبتعد حتى عن الدين!
ولابد من ذكر الدراسات العلمية والاستنباطات الموضوعية التي تتناول هذه المسائل. فمنظمة الشفافية الدولية، التي كانت الحكومة التركية تمتدحها في وقت من الأوقات، أظهرت في بيان لها أن تركيا تراجعت في قائمة مؤشر الفساد. كما أجرى اتحاد رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (توسياد) دراسة حملت عنوان: “الفساد في تركيا من وجهة نظر عالم الأعمال”، حيث خلصت هذه الدراسة إلى النتيجة ذاتها التي توصل إليها مؤشر الفساد الذي أعدته منظمة الشفافية الدولية.
يدرك المرء كم أن قضية الفساد في تركيا وصلت إلى أبعاد خطيرة من خلال الأقوال والاعترافات التي أدلى بها الوزراء الأربعة السابقون الذين اقترنت أسماؤهم بفضيحة الفساد والرشوة أمام اللجنة البرلمانية المنوط بها التحقيق في القضية. كما تثبت المعلومات التي وصلت إلى اللجنة المشار إليها رغم كل العراقيل التي وضِعت لمنع وصولها أن الحكومة التركية تلطخت يداها بالفساد الذي وصل إلى أبعاد لاتصدَّق.
إذا كان الفساد والسرقة قد انتشرا في البلاد لهذه الدرجة، فعلينا أن نبحث عن طريق للنجاة والتخلص من ذلك. وليس الطريق الصحيح هو محاولة إلصاق التهم والافتراءات التي لا أساس لها من الصحة بأناس أبرياء قائلا: “انظروا، فهناك من يرتكب الأخطاء من غيرنا أيضًا”. وإن ذلك قد يشتّت انتباهَ الناس لفترة قصيرة لكنه لايمكن أن يخفي الفساد الممنهج الذي يتورط فيه البعض مستخدما امكانات الدولة وقوتها. ولاريب في أن فكرة القيام بعملية اعتقالات واسعة النطاق من أجل الحيلولة دون إكمال التحقيق في قضية الفساد (بغض النظر عن صاحب هذه الفكرة) تعتبر حسابًا خاطئا. فهذه الفكرة سترتد على صاحبها ليقول الناس: “دعك من اختلاق القصص والحكايات ونظّف أولا هذه القاذورات!”. ذلك أن الإقدام على عمليات اعتقال من أجل التستر على فضيحة الفساد يعني الإقرار بهذا الجرم المشهود. فهل تعتقدون أن المجتمع المنفتح اليوم عاجز عن إدراك هذا المشروع؟
إذا أراد من يحكمون تركيا الآن تبرئة أنفسهم من تهم الفساد، فعليهم أن يقرأوا بطريقة صحيحة صورة تركيا الملتقطة من الخارج ويحلّلوا بصدق وإخلاص الموجة العميقة الثائرة من الداخل.
لقد وصل الفساد والظلم، اللذان جعلا كتّابًا يناصرون حكومة حزب العدالة والتنمية يقولون بصوت عال: “سيحل علينا غضب من السماء!”، إلى نقطة لا يمكن بعدها التستر عليهما. فكل شخص لم تُسلب بصيرته ولم تسحره العبارات الرنّانة يرى هذه الحقيقة المرّة ويدركها جيدًا.
لقد بلغ السكين العظم، ولا يمكن لأحد صادق في إيمانه بالله وفي حبه له أن يقف موقف المتفرج حيال هذا الانهيار والتحلل الذي تعيشه تركيا في الوقت الحالي.
صحيفة” زمان” التركية