بقلم: علي بولاج
كانت المصادرة هي أحد أنواع العقوبات أيام الدولة العثمانية. ويطلق لفظ المصادرة على إجراء وضع الحكومة يدها على ممتلكات الوزراء وأركان الدولة والأغنياء عندما يموتون أو يعدَمون لأي سبب من الأسباب، وحتى يمكن أن تصادَر ممتلكات هؤلاء أحيانًا في حياتهم.
يشير المؤرخ التركي الراحل محمد زكي باقالين إلى أن إجراء المصادرة، الذي يمثل وصمة عار في التاريخ العثماني، بدأ في عهد السلطان محمد الفاتح في القرن الخامس عشر الميلادي. وكان أول مَنْ صودرت ممتلكاتهم هم الصدر الأعظم خليل باشا ويعقوب باشا ومحمد باشا. ثم بعد ذلك صودرت ممتلكات مَنْ طُمع في ممتلكاتهم. كما حُرم ورثتهم من الميراث. وكان السلطان مصطفى الثاني قد موّل جيشه في الحروب التي خاضها من خلال أموال المصادرة. هذا فضلًا عن مصادرة مسؤولي الأقاليم لممتلكات الأشخاص الذين يطمعون بأموالهم. واستطاعوا بفضل هذا الإجراء معاقبة معارضيهم.كما قتلوهم أحيانًا. ولقد أصدر السلطان محمد الثاني فرمانًا بحظر المصادرة. وبعد عهد التنظيمات، جرى ربط المصادرة بقرار من المحكمة (معجم مصطلحات التاريخ العثماني، 1993 إسطنبول، المجلد الثاني، ص 625 – 626).
يقول المؤرخون إن إجراء المصادرة بدأ يطبَّق للمرة الأولى في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه من خلال مصادرة ممتلكات الولاة الذين كسبوا أموالهم بطريق غير شرعي. وبعدها بدأ خلفاء بني أمية استخدام هذا الإجراء كوسيلة للانتقام والعقاب بحق معارضيهم. ويعرف الجميع المصادرات التي قام بها الحجاج بن يوسف الثقفي الظالم. وقد لجأ العباسيون إلى أسلوب المصادرة لمعاقبة الأمويين.
وينقل لنا المؤرخ التركي كمال تشيشك معلومات حول المصادرة بقوله: “أطلق النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته عمر رضي الله عنه العمل بهذا الإجراء للحيلولة دون انتشار الرشوة والكسب غير المشروع. ثم تحوّلت المصادرة مع مرور الوقت إلى وسيلة لتمويل عجز ميزانية الدولة. واعتُبرت الأموال والممتلكات التي يكسبها الأشخاص وهم يعملون باسم الدولة مالًا عامًا. وكانت هذه الحجة: لقد اغتنى رجل الدولة بفضل المنصب الذي يتولاه. وعليه، فقد صودرت ممتلكات رجال الدولة عقب نهاية مدة خدمتهم بفضل هذه الحجة، حيث استخدمت هذه الأموال في سد عجز موازنة الدولة”. (صحيفة “بوجون” التركية، 24/10/2014)
كان المبدأ ينص على عدم مصادرة أموال غير المسلمين وممتلكاتهم، بل كان مَنْ تصادَر أموالهم هم رجال الدولة والوزراء ومَن هم في حكْم “العبيد” والجنود والأشخاص الذين أصبحوا أثرياء بفضل عملهم الرسمي. وكان موسى شلبي قد كسب شهرة واسعة من خلال مصادراته التعسفية؛ إذ كان يكفي أن يهمس أحدهم لديه باسم غريمه ليقوم بما يلزم.
تنص العادات العثمانية على أن السلطان هو السيّد والوريث الحقيقي لكل مَن يندرج تحت وصف “العبيد”باستثناء العلماء. فإذا أصبحوا أثرياء، فقد صاروا كذلك بفضل ولائهم للسلطان الذي كان لا يتردد في مصادرة ممتلكات أي شخص يعتقد أنه لا يتوافق مع مبادرته. وكان رجال الدولة يؤسسون الأوقاف بُغية التغلب على مخاطر هذا الإجراء، وبهذه الطريقة كانوا يحاولون إنقاذ ممتلكاتهم وحقوق ورثتهم. وكان هذا هو أحد أسباب بناء الأوقاف التي تحمل أسماء الوزراء ورجال الدولة في البلدان الخاضعة لحكم الدولة العثمانية. وكان من النقاط المهمة في هذا الصدد استثناء العلماء والشعب (الرعية مِن غير المسلمين) من إجراء المصادرة أيام العثمانيين حتى وإن أساءوا استغلال سلطاتهم.
واليوم يسعى أصحاب السلطة إلى تكميم أفواه معارضيهم عن طريق معاقبتهم من خلال الإضرار بهم اقتصاديًا وماليًا. فالمصادرة اليوم تتم إما عن طريق القانون أو بشكل مباشر. وعلى سبيل المثال، فقد صدر في السابق حكم بالسجن مدى الحياة على المعارض التركي د. إلهام توهتي في الصين. كما صودرت ممتلكاته، والآن يريدون مصادرة منزله الذي تسكن به زوجته وابناه القاصران.
لايكُفّ قلمي عن الكتابة عن أن بنية الدولة القاسية التي خرجت عن الشريعة الإسلامية أيام الدولة العثمانية وكذلك القانون العرفي المفتوح على سوء الاستغلال، يجري إحياؤهما اليوم في تركيا. فالجماهير والأشخاص الذين يعتبرهم السلطان “عبيده” هم هدف للمصادرة. ولقد بادر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي إلى الخلط بين القانون العرفي وقانون جنكيز خان وتقليد الدولة المغولية الهندية والدين والدولة وقانون السيف لدى العرب وسياسة القصر البيزنطي وطوّروا عقلية استبدادية متجبرة وظالمة. أما الهدف المباشر لهذه الدولة فهو الشعب والعلماء المدنيون ودول الجوار.
وإذا كانت الحكومة ستعاقب خصومها من خلال تعريف مشترك في هذا الإطار، وليس هناك أي خيار قانوني آخر، وإذا كانت طريقة معاقبة المعارضين ستكون عبارة عن مصادرة ممتلكاتهم؛ إذ إن القانون الأخير الذي صادق عليه البرلمان التركي إشارة على ذلك، فإن كل الجماعات والحركات الدينية المدنية في تركيا، وليس جماعة بعينها، ستكون هدفًا لإجراء المصادرة هذا. وسيكون بإمكان المسؤولين مصادرة ممتلكات الأشخاص والجمعيات والأوقاف والمؤسسات بلا استثناء.