بقلم: محمد كاميش
هل الفقر مشكلة اقتصادية أم أخلاقية؟ بمعنى هل سكان القارة الإفريقية فقراء بسبب انعدام مصادر بلادهم الاقتصادية أم لأن إدارة هذه البلاد من خلال الفقر هو أسهل للفئة الحاكمة؟ فعلى سبيل المثال، هل كان انخفاض مستوى الدخل في مجتمعات دول الكتلة الشرقية السابقة سببه انعدام المصادر الاقتصادية أم كانت هناك أسباب أخرى؟
لماذا تكون الشعوب غنية في البلدان التي تطغى فيها المعايير الأخلاقية على إدارة الدولة؟ وكيف يمكن أن نفسر أن دولًا تبلغ فيها معدلات الفقر أعلى مستوياتها مثل الهند والبرازيل وفنزويلا تنحدر منها شخصيات دخلت ضمن قائمة أغنى أغنياء العالم؟ قناعتي الشخصية تقول إن الفقر هو شكل من أشكال الإدارة.
كم عدد البلدان ذات الشعوب الفقيرة رأيتم حكّامها فقراء أيضًا؟ لماذا أغلب حكّام الدول التي تكون شعوبها فقيرة أثرياء ثراء فاحشًا؟ هل القصور الاقتصادي هو السبب الوحيد للفقر الذي يظهر مع وقوع كل كارثة في تركيا؟
إن الإقدام على دفع أموال لشراء “قدح” أكثر مما يربحه عامل عادي في شهر واحد، فضلاً عن دفع هذه الأموال من خزانة دولة يعيش فيها أناس يرتدون الأحذية المصنوعة من المطاط الأسود يبرهن على أن الفقر ليس مشكلة اقتصادية بل إنه مشكلة أخلاقية.
تثبت العبارة التي قالها وزير الداخلية التركي السابق معمر جولار أمام لجنة التحقيق في فضيحة الفساد، والتي مفادها: “من فضلكم لا ترسلوني إلى المحكمة العليا” أنه ليس من المنطقي إخفاء الحقائق وأن دفاع أبواق الإعلام الموالي للحكومة ليل نهار لم يعد كافيًا. وأنه لم يعد هناك مفرّ من المواجهة. وعلى الرغم من المساعي الرامية للتستّر على فضيحة الفساد ومحاولة منع الحديث حول هذه القضية عبر القضاء فإن الذين يدلون بأقوالهم أمام لجنة التحقيق في القضية يضطرون للاعتراف بوقائع الفساد الواحدة تلو الأخرى. ورأينا كيف أن الحكماء المؤيدين لحكومة حزب العدالة والتنمية بدأوا يوجّهون انتقادات لاذعة للحزب الحاكم ويكتبون مقالات نارية بشأن قضية الفساد. فمَن كانوا يتفرجون على عملية “مطاردة الساحرات” التي استهدفت النيل ممن اعترضوا على ممارسات الفساد واعتبروها عملية طبيعية وأيّدوا الحكومة في ذلك، حتى إنهم أصدروا فتاوى لتأييد الحكومة، نشاهدهم اليوم يوجّهون أقسى الانتقادات لفضيحة الفساد التي دافعوا عن أقطابها قبل عام بالتمام والكمال. ولا ريب في أن هذه المقالات التي كتبتها أقلام هؤلاء الكتّاب تحمل أهمية كبيرة من حيث إظهارها أن الفساد خرج من كونه عرضًا طارئًا في عهد حزب العدالة والتنمية ليتحوّل إلى أسلوب مؤسسي تسير عليه الدولة، حتى إن فضيحة الفساد بدأت تضايق أنصار الحزب أنفسهم.
لاشك في أن ارتداء مواطن تركي لحذاء مطاطي أسود بالٍ يدمي الضمير الجمعي في دولة تأسّس فيها الفساد وتشعّب. وحوّل فيها مَن يحكمون البلد سلطات الدولة التي اؤتمنوا عليها إلى وسيلة للثراء الشخصي. ووصل فيه الإسراف والخيلاء إلى القمة. وإذا أزحنا الستار قليلًا عن هذه الخيلاء والأبهة وعبارات “الاقتصاد يسير بشكل ممتاز”، لوجدنا أن هناك الملايين من الأشخاص الذين يعيشون حالة من الفقر المدقع ويحتاجون حتى إلى كسرة خبز.
أما الأمر الذي يحزن قلوبنا هو أن هذا الفقر الذي تعيشه تركيا ليس نابعًا من فشل اقتصادي بل نابع من اعتبار الفقر شكلاً من أشكال الإدارة. ولاشك في أن هذا الشكل من أشكال الإدارة التي تقدّم سمكة إلى الذين سيحملون الحزب إلى سدة الحكم وتجعلهم بذلك محتاجين ومضطرّين إليها بينما تخزّن في مستودعها السفن المحملة بالأسماك ليس أمراً اضطرارياً، وإنما عبارة عن ترجيح واختيار. ومع ذلك، فإن الملايين لا يهتمون بمَن يتملك هذا الكمّ الهائل من الأسماك خشية خسارةِ حتى هذه السمكة الوحيدة أيضاً.
نعترض منذ فترة طويلة على أعمال الفساد واستغلال الفقر كشكل من أشكال الإدارة. ولا أدرى هل مَن يهاجموننا ويتهموننا بالخيانة لاعتراضنا على الفساد مدركون لأصوات الاعتراض التي تتعالى من بين صفوفهم؟ فعليهم ألا ينسوا أننا لو صمتنا فإن الحقائق ستنطق بصوت يعلو يومًا بعد يوم.