بقلم: مصطفى أونال
سيطر الضباب من جديد على سماء العاصمة التركية أنقرة. وبطبيعة الحال، لا أقصد في هذا المقام حالة الجو المادية فقط، فمن الطبيعي أن ينتشر الضباب في سماء أنقرة في هذا الوقت من العام، لكن المناخ السياسي هو الآخر كذلك يلفه الضباب.
زاد مخاض السياسة في تركيا؛ إذ أصبح من الممكن أن نسمع العديد من “السيناريوهات السياسية” أو “نظريات المؤامرة” في كل ركن من أركان أنقرة. ألم تلاحظوا أنه حتى إشارة المحكمة الدستورية العليا إلى إمكانية مناقشة عتبة العشرة بالمائة لتمثيل الأحزاب في البرلمان، قلبت الدنيا رأسًا على عقب. بيد أنه لم يصدر قرار بعد حول هذه المسألة، وكفى أن يجري تناول هذه القضية حتى تهبّ رياح عاتية جعلت من رئيس المحكمة الدستورية هاشم كيليتش شخصية انقلابية.
يدرك الجميع في تركيا أن خطوط الصدع محمَّلة بالطاقة. ولهذا فإن أصغر شرارة يمكن أن تكون سببًا لانتشار القلق والتوتر في شتى أنحاء البلاد.
لاينكر أحد أن القصر الرئاسي الجديد (القصر الأبيض) ليس في منأى عن هذا الضباب الذي يغطي سماء أنقرة. يقولون إن عدد غرف القصر أكثر من ألف غرفة، وهناك من يقول إنها أكثر من 1150 غرفة. ولا أخفي عليكم أني أعتقد أن رقم ألف مبالغ فيه. وكان مَن أوضح عدد غرف القصر هو الرئيس أردوغان نفسه. وهذا شيء جيد؛ إذ أصبح الرأي العام على علم بالعدد الصحيح لغرف القصر. ولاريب في أن جهْل المواطن أمر طبيعي. إذ لم يصدر إلى اليوم تصريح رسمي يطمئن الجميع.
كانت المعلومات التي جرى الحصول عليها من خلال مصادر غير موثوق بها قد انتشرت بين الشعب التركي. ولا تزال التكلفة الإجمالية للقصر مجهولة إلى الآن. فتجد الرئيس أردوغان يقول شيئًا والوزراء يقولون أشياء أخرى. فإذا كان الحديث في هذا المقام يجري عن اعتبار الدولة وهيبتها، فيجب أن يطّلع الرأي العام على جميع المعلومات، ليعرف الشعب الحقيقة.
ياليتنا علمنا عدد غرف القصر الرئاسي الجديد في أنقرة بالتحديد. ولاريب في أن الإفصاح عن رقم 1150 كان منيرًا لدربنا في هذا المقام. ولن يبقى هذا الكمّ الهائل من الغرف فارغًا، بل إنها ستمتلئ كافة. وفي الواقع، فإن طريقة عمل القصر كذلك موضوع للنقاش والجدل، ذلك أن القصر بدأ يتشكّل فيه “كيان مواز” للحكومة. وستتضح معالم هذا الكيان خلال المرحلة المقبلة بالطريقة التي سيراها الجميع. ولاشك في أن القصر – بكل جوانبه – سيكون موضوعًا سيتم التركيز عليه في النقاش السياسي في تركيا.
لقد فرضت أجندة فضيحة الفساد، التي كُشف عنها منذ عام في تركيا، نفسها على الساحة السياسية بالرغم من جميع الجهود التي بذلها الحزب الحاكم للتعتيم عليها وتشويه جماعة الخدمة عبر إلصاق تهمة تدبير انقلاب على الحكومة عن طريق حملات الفساد. وعلى الرغم من مرور عام على بدء هذه العملية فإنه لم يكشف أحد عن أية وثيقة أو مستند يبرهن على صحة التصريحات التي تقول إن انقلابًا مدنيًا فاشلًا خُطط لإسقاط الحكومة. وبقيت هذه التصريحات عبارة عن كلام فقط. وجميعنا يعلم أن رفع الأصوات كالرعد، وتكرار العبارات الرنّانة، لا يمنح للكلمات قيمة. فما هو معنى الرعد إذا لم تمطر السماء؟ أليس عام بالكامل كافٍ لفكّ شفرة التخطيط لانقلاب؟
لم تتقدم فرضية الانقلاب خطوة إلى الأمام قط، بل بقيت في مكانها. لكن التحقيق في قضية الفساد سار وتقدم، على الرغم من كل العوائق والعقبات التي واجهته. وأصبح ما كُشف عنه كافٍ لإقناع الجميع بما حدث، وليس فقط خزائن الأموال، والساعات الفاخرة، وصناديق الأحذية. يضاف إلى ذلك الأقوال التي أدلى بها الوزراء الأربعة في اللجنة البرلمانية المنوط بها التحقيق في القضية. كما لم ينفع قرار حظر النشر وارتفع الدخان إلى أن أصبح حزب العدالة والتنمية وسط اللهب.
تبحث الحكومة التركية عن مخرج للنجاة من هذا المأزق. إما تبرئة الجميع أو إحالتهم جميعا إلى المحكمة العليا، وكلا الخيارين خطير، لا سيما وأن تركيا تتجه صوب انتخابات برلمانية العام المقبل. ومن بين الخيارات كذلك التضحية بوزيرين. أحدهما وزير الداخلية السابق معمر جولر الذي توسّل للجنة التحقيق بقوله: “لا تحيلوني إلى المحكمة العليا”. ولا أرى أن هناك احتمالًا آخر وهو أن يقوم الحزب الحاكم بالتفريق بينهم. إما التضحية بهم جميعًا أو عدم التضحية بأي منهم. وأرى أن الحزب سيرجح الاختيار الثاني. فاستعدوا لما سنشهد خلال المرحلة المقبلة.
نشرت صحيفة” ميللّي جازيته” التركية عنوانا رئيسيا هو: “تنزل اللعنات” يحمل تحذيرًا من البروفيسور جواد أكشيت الذي يعتبر من أبرز الأسماء المؤيدة للحزب الحاكم في تركيا. وهذا التحذير ليس تحذيرًا بسيطًا؛ إذ استخدم أكشيت كلمات مؤثرة للتعبير عن غضبه الشديد. وقال في هذا التحذير: “لا يمكن القيام بأي عمل في تركيا اليوم دون دفع رشوة، وهذا سبب كافٍ لنزول اللعنات علينا!”. فهل هناك تفسير أوضح مما قاله أكشيت؟
وكانت هناك شخصية أخرى من بين صفوف أنصار حزب العدالة والتنمية عبرت عما بداخلها بقولها: “يكفي هذا القدر!”. وكانت هذه الشخصية موضوعًا للانتقادات بسبب مواقفها المتغيرة. وقد خاطبت هذه الشخصية من يحكمون تركيا بقولها: “أنتم يا من تحكمون تركيا!”. وقد وجهت انتقاداتها من خلال حوادث المناجم التي راح ضحيتها مئات العمال. وطالبت بتلبية احتياجات جميع أفراد الشعب بلا استثناء. وأضافت بقولها: “إما أن نحقق هذا وإما أن ننتظر أن تنزل علينا اللعنات من السماء!”.
لقد تذكرت أبيات الشعر التي كتبها الشاعر الإسلامي التركي المعروف سزائي كاراكوش الذي لا يعتبر شاعرًا فقط، بل هو في الوقت نفسه سياسي مخضرم. وكانت الأبيات تبدأ بقوله: “يأيها المشايخ العظماء أصحاب العمائم الخضراء، أنتم لم تُعلّموني هذا”. ويستمر:
لقد أدركتُ أياماً، مهيمنةٌ فيها النساءُ، لكنهنّ غير سعيدات.
لَمْ تعلِّموني ذلك.
وأدركتُ أزمنةً يتوسّل فيها السلطانُ الحاكم إلى الشعب، مع أنه يرتكب كل أنواع الظلم بحقّهم.
لمْ تتحدَّثوا إلىّ عن ذلك!
ولقد طار الناس في الجوّ ولكنهم ماتوا في الأرض..
لمْ تعلّموني ذلك.
أليس شاعرنا محق؟ إذ لا شك في أن أغلب أصحاب العمائم العظيمة صامتون اليوم أمام ما يحدث في تركيا.
وفي الختام، لا أدري إذا كنت نجحت في شرح سبب الضباب الكثيف المسيطر على أنقرة أم لا؟