بقلم: شاهين ألباي
أعلن المتهمون في قضيتي “باليوز” (المطرقة الثقيلة) وشبكة “أرجنيكون” الانقلابيتين، والمدافعون عنهم أن هذه القضايا عبارة عن “مؤامرة حاكتها جماعة فتح الله كولن ضد الجيش التركي.
وعندما واجه إداريو حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان التحقيقات في عمليات الفساد والرشوة الكبرى في 17و25 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي لجأوا فورا إلى هذه النظرية. وحتى يعتِّموا على تلك التحقيقات ادعوا أنها محاولة انقلابية خططت لها “الدولة الموازية التابعة لفتح الله كولن”. حيث بدأوا عملية” مطاردة الساحرات” ضد حركة الخدمة، وحاولوا أن يُقحموا فيها الشرطة والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العموم وأخيرا المحكمة العليا والجيش. وكما هو متوقع فقد حصلوا على دعم كبير من الموالين للوصاية العسكرية. ويتضح أن الهدف من تسويق ادعاء وجود “الكيان الموازي” ليس مجرد التعتيم على عمليات الفساد والرشاوي الكبرى فقط بل تغيير آلية الدولة لتكون تابعة لهم.
وأظن أن رئيس المحكمة الدستورية هاشم كيليتش يرى ذلك أيضًا. فالسيد كيليتش رد على الادعاءات التي أفادت بأن الكيان الموازي يسيطر على القضاء حيث قال في معرض حديثه للصحفيين: “ثمة أخطاء فادحة تنتج عن اتهام الناس دون وثائق أو معلومات… فهناك تصنيفات بحق الناس واتهامات مختلفة تسند إلى هذا وذاك. ثم يُطلبُ إلى المسؤول الرسمي أن يحل هذه المشكلة بناءً على هذه التصنيفات. وهذا أمر خاطئ جدا ولا يمكن قبوله. ولو وُجد شيئ كهذا فلابد من عرض الوثائق والمعلومات وإخبار الجهات المعنية لتقوم بواجبها. وقد وردتني قائمة تصنيفية كهذه فأهملتها ولم أكترث بها”.
بيد أن السيد كيليتش صرح للصحفي مراد يتكين في صحيفة” راديكال” تصريحاً مختلفاً إذ قال (باختصار): “إن مجموعة كولن تسيطر على المحكمة العليا وثمة صراع يدور بين تلك القوة المسيطرة والحكومة للسيطرة على سلك القضاء. لكن يجب على منظمات المجتمع المدني التخلي عن محاولة السيطرة على سلك القضاء”.
وإنني أرى أنه من المفيد أن نذكِّر بأن حكومة العدالة والتنمية تحاول إقحام المحكمة العليا والجيش في عملية مطاردة الساحرات، وأن ادعاء وجود كيان مواز هو عبارة عن “سفسطة” (كما يرى السيد سامي سلجوق، الرئيس الشرفي الأسبق للمحكمة العليا).
أولا عليَّ أن أبيِّن المبادئ والقيم التي ألتزم بها. أنا لستُ كماليا ولا ماركسيا، فأنا ليبرالي أي إنني من دعاة الحرية وأؤمن بديمقراطية الأكثرية. فحرية الدين والضمير، بما فيهما حرية عدم الإيمان بأي شيء، بالنسبة لي مسألة تتعلق بحقوق الإنسان الأساسية. وأنا لا أعتبر جميع المعتقدات الدينية عبارة عن رجعية. وأرى أن الرجعية عدوٌ لحقوق الإنسان والديمقراطية. فالرجعية لها طابع ديني وطابع علماني. وأنا معارض لكليهما.
وإن دولة الحقوق والقانون هي من المؤسسات الأساسية للديمقراطية الليبرالية. فالمساواة من المبادئ الأساسية لدولة القانون حيث تنص عليه المادة العاشرة من الدستور المعمول به إلى الآن: “الجميع متساوون أمام القانون دون أي تمييز بينهم على أساس اللغة والعرق واللون والجنس والفكر السياسي والمعتقد الفلسفي والدين والمذهب وما إلى ذلك… وكل مؤسسات الدولة والجهات الإدارية فيها ملزمة بتطبيق مبدأ المساواة أمام القانون في جميع معاملاتها”. فلا يمكن أن يميَّز أحد لأسباب كاللغه الأم والعرق ولون البشرة والجنس والفكر السياسي والمعتقد الديني أو عدم الإيمان.
وبناء عليه فلا يمكن أن يُمنع أحد من الحصول على وظائف في الدولة بسبب كونه من الأكراد أو العلويين أو النصيريين أو غير المسلمين أو بسبب كونه امرأة أو ماركسيا أو نقشبنديا أو من الحركة النورية أو من جماعة فتح الله كولن. فلا يمكن لأحد أن يُصنف أو يُراقب أو يُطرد من وظيفته الرسمية بناء على هذه المسوغات.
وثمة مبدأ آخر لدولة القانون، هو استقلالية القضاء. وهذا يقتضي عدم تعرض القضاة لأي ضغط حكومي أو سياسي أو عرقي أو ديني أو جماعي؛ وعدم تلقي القضاة للإملاءات من أحد. وهذا يعني أن يتخذ القضاة قراراتهم حسب القوانين وحسب قناعتهم وضميرهم. ولكن استقلالية القضاء لاتعني ألا يكون للقضاة أفكار سياسية وألا يتمسكوا بهويتهم العرقية ومعتقداتهم الدينية. فهذا غير ممكن أصلا. فليس هناك قاضٍ بلا أفكار سياسية أو غير منتسب لأحد الأعراق أو يؤمن بشيئ.
كما أن هناك مبدأ أساسياً لدولة القانون وهو شخصية الجريمة والعقاب. فلو كان موظفو الدولة الذين يُدَّعى أنهم تابعون لجماعة كولن وأنهم خالفوا الأنظمة والقوانين وارتكبوا جرما ما، وكانوا يتلقون تعليماتهم من الجماعة الدينية فيجب إثبات كل ذلك وتفنيده في إطار عملية قضائية عادلة؛ وإلا فلا يمكن معاقبة أي شخص من جماعة كولن. حتى لو ثبت أن أحد أفراد جماعة كولن ارتكب جرما عن طريق محاكمة عادلة فهذا لا يعني أن كل المنتسبين لجماعة كولن مجرمون ويجب أن يعاقبوا. وبعبارة أخرى لا يمكن القيام بمطاردة الساحرات في دولة قانون.
كان أول من وصف ادعاء وجود الدولة الموازية بأنه سفسطة هو البروفيسور الدكتور سامي سلجوق وهو الرئيس الأسبق للمحكمة العليا. فقد قال: “عملت في القضاء 41 سنة فلم أصادف مرة وجود إمام للقضاء، ولم أرَ ذلك حتى في منامي. فهذا شيئ مستحيل. فلا داعي لتضليل الرأي العام. إذ إن ذلك كله عبارة عن ادعاء. وبصراحة أنا أرى أنه عبارة عن سفسطة. ولم يظهر أي دليل على صحة هذا الادعاء حتى الآن. ويقال إن هناك دولة موازية تحاول الانقلاب على الحكومة عبر من ينتسب إليها من القضاة والمدعين العموم. فلو كان هناك شخص كهذا أو 5 أشخاص أو 500 شخص أو 5 آلاف شخص فيجب عليكم كشف النقاب عنهم واحدا واحدا لتُتَّخذ بحقهم الإجراءات اللازمة. وإن لم تكشفوا النقاب عنهم، وعملتم على خداع الناس بادعاءاتكم فذلك شأنكم…” وهذا ما يحصل بالضبط.