بقلم : عبد الحميد بيليجي
لعب تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش) دورًا بارزًا في تغيير النظرة العالمية إلى التطورات التي تشهدها منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط، بسبب الأعمال الإرهابية التي نفذها والتي تقشعر لها الأبدان.
لقد غطّت الأعمال الوحشية التي ارتكبها داعش، ولو شيئًا قليلًا، على الممارسات غير الإنسانية التي ارتكبها نظام بشار الأسد في سوريا وأفضت إلى مقتل عشرات الآلاف من البشر.
أما التغيّر الآخر الذي حدث في المنطقة، منذ ظهور داعش، فمتعلق بالأكراد. فمَن يدافعون عن مدينة كوباني (عين العرب) السورية في مواجهة هجمات داعش الوحشية أصبحوا أمام العالم محاربين من أجل الحرية الأمر الذي أضفى صبغة كبيرة من الشرعية على حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، امتداد منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) الإرهابية في سوريا، في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية العالمية.
لقد اعتبرت القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، هذا التنظيم (PYD) مخاطبًا لها، حتى أنها بدأت تزوده بالسلاح، الأمر الذي أفضى إلى اعتبار هذا الكيان الذي يعتبر دون الدولة (أي لا يعترف به كدولة). ولا شك في أن الاعتراضات التي ساقتها تركيا منذ البداية بشأن هذا التنظيم بأنها “هو تنظيم إرهابي مثل حزب العمال الكردستاني تمامًا”، وأن الإدارة التي أسسها في المنطقة لا يمكن أن تكتسب صبغة شرعية، قد فقد معناه من خلال التطورات الحالية في المنطقة. وعلى الرغم من اعتراض تركيا في البداية، فإنها اضطرت لفتح ممر يوصل إلى كوباني والسماح لقوات البشمركة بالعبور من أراضيها إلى كوباني. لكن علاقة تركيا العاطفية مع الأكراد قد تضررت كثيرا. والأكراد قد اتفقوا على التعبير عن رد فعل مشترك للمرة الأولى، رغم أنهم يعيشون في دول مختلفة. وكان الناس يهتفون أثناء عبور قوات البشمركة من تركيا بقولهم ” Biji Obama”(أي عاش أوباما باللغة الكردية). أضف إلى ذلك مصرع العشرات في المظاهرات التي اندلعت في تركيا احتجاجًا على حصار كوباني.
لقد أفضت الاحتجاجات العنيفة وعمليات الحرق والتدمير التي شهدتها مدن شرق تركيا إلى طرح سؤال لمناقشة سيطرة الدولة على تلك المنطقة بل إنها هزّت اعتبار الدولة التركية هناك.
وكأن هذا لا يكفي لتركيا، فقد تلقّت أنقرة انتقادات كثيرة بسبب تأخرها في فهم المأساة الإنسانية التي تعيشها كوباني. وفي الوقت الذي كان يصور فيه الإعلام الدولي قوات حزب الاتحاد الديمقراطي والمقاتلات الكرديات على أنهم أبطال كان يصور تركيا بأنها دولة تقف موقف المتفرج أمام المأساة الإنسانية التي يعيشها الأكراد على حدودها مع سوريا. وأصبحت الصورة التي حفرت في الأذهان عن تركيا تتلخص في تصوير الدبابات التركية التي تقف على الحدود وتوجّه فوهات مدافعها إلى كوباني دون أن تقدم على أي تصرف. بيد أن حزب الاتحاد الديمقراطي كان لايريد تدخل الجيش التركي في كوباني، بل إنه كان يعارض حتى إقامة منطقة عازلة على الحدود.
لقد أدت الأحداث المندلعة في كوباني إلى إغراق تركيا في مشاكل جمة. وكانت أنقرة قد وضعت إسقاط نظام بشار الأسد على رأس أولوياتها. ولهذا دعمت قوات المعارضة السورية. وكان الجميع قد تحدث عن أن تنظيم داعش استفاد هو الآخر من هذه الوضعية. كما كان الأكراد والرأي العام العالمي يربط بين موقف تركيا من كوباني وعلاقتها بداعش. هذا فضلًا عن انتشار ادعاء مفاده أن أنقرة ستُسرّ لتصفية المناطق الواقعة تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني على الجانب السوري من حدودها بيد داعش.
أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح قال فيه إنه لا فرق بين حزب الاتحاد الديمقراطي وداعش، الأمر الذي أصاب الجميع بالذهول، لا سيما في هذه الفترة الحرجة التي يتحدث فيها الجميع عن احتمالية سقوط كوباني بيد داعش. ذلك أن حلفاء تركيا تواصلوا مع قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي، وبدأوا يرسلون مساعدات تسليحية إليه. أضف إلى ذلك أن حزب العمال الكردستاني، نسخة من حزب الاتحاد الديمقراطي في تركيا، كان شريك أردوغان في مفاوضات السلام الرامية لحل القضية الكردية. كما أن الأحداث المندلعة في كوباني أظهرت كيف أن مفاوضات السلام بين أنقرة والأكراد اكتسبت بعدًا دوليًا.
لا يمكن بعد الآن حل القضية الكردية بشكل مستقل عن التطورات التي تشهدها سوريا والعراق، ذلك أن حل هذه القضية تأخر كثيرًا. ولا شك في أن تركيا مضطرة لأن تخطو خطوات إلى الأمام في الطريق الذي دخلته، شاءت أو أبت. ولقد بادر زعماء حزب العمال الكردستاني إلى استغلال الظروف الدولية الإيجابية بالنسبة لهم وحالة الوهن التي أصبحت عليها تركيا، وبدأوا يرفعون سقف مطالبهم، حتى أنهم لا يتورّعون عن قول إن الوزراء الأتراك “يتوسّلون” إليهم.
لاريب في أنه ليس هناك أدنى شك في أن تهديد تنظيم داعش والوضع في كوباني أسهما في حدوث حالة من التعاطف الدولي تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي. غير أن هناك كمًا كبيرًا من المعلومات تزودنا بأفكار حول مفهوم الإدارة لدى هذا التنظيم الذي أصبح ذا نفوذ في مدن عفرين وكوباني والجزيرة بعد انسحاب قوات نظام بشار الأسد.
كان حزب الاتحاد الديمقراطي والأحزاب الحليفة له قد أسسوا مجالس تشبه الوزارات في هذه المناطق الثلاث منذ يناير/ كانون الثاني 2014، وصاغوا دستورًا يتألف من 97 مادة يحظر عقوبة الإعدام بما يتوافق مع اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية، حتى أنهم شكلوا محاكم ووحدات أمنية في هذه المدن. ويلفت تقرير أعدته منظمة مراقبة حقوق الإنسان ” هيومان رايتس ووتش” (Human Rights Watch)، وحمل عنوان “انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق التي يحكمها حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا” انتباهنا إلى نقاط مقلقة للغاية. ويسرد التقرير معلومات حول الاعتقالات التعسفية التي تستهدف المعارضين السياسيين والمعاملة السيئة في السجون، وحوادث الخطف مجهولة الفاعل ووقائع القتل وغير ذلك. ويقول التقرير إن الجناح المسلح (YPG) لحزب الاتحاد الديمقراطي يجند الأطفال.
أما النتيجة التي استخلصها مسؤول منظمة مراقبة حقوق الإنسان بالشرق الأوسط نديم حوري، فهي كالتالي: “تعتبر المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الكردية هادئة مقارنة بالمناطق التي تدور فيها رحى الحرب. لكن هذه المناطق تشهد في الوقت نفسه انتهاكات لحقوق الإنسان”.
وفي النهاية أقول إنه يجب علينا في الوقت الذي ندعم فيه مفاوضات السلام وحزب الاتحاد الديمقراطي في صراعه ضد داعش ألا نتغاضى عن موقف هذه الإدارة إزاء مخالفيها ونموذج تسييرها للأمور في سوريا.