أكرم دومانلي
يسير رجل في صحراء جرداء قاحلة وحيدًا لا يرافقه أحد بسبب طمعه وحسده، ويعثر على مصباح داخل الرمال، فيدعكه ليخرج منه الجني ويقول له “شبيك لبيك عبدك وبين يديك، ماذا تطلب؟” ثم سرعان ما يحذّره الجني قائلًا “انتبه فأنا جني سيئ”. لكن الرجل، الذي يأسره الحسد والغيرة، لا يعبأ بهذا التحذير، ويردّ على الفور بقوله “أكره ذلك الشخص ولا أريد أن أراه مرة ثانية”. فيبادر الجني إلى تنفيذ رغبته، ويُعمي عينيه! فيفطن الرجل إلى أنه حصل على النصيحة من المصدر الخاطئ. لكنه أدرك ذلك بعد فوات الأوان. وهذه هي عاقبة “الأنصار”؛ إذ أعماهم النموذج الإعلامي الذي اتخذوه مرشدًا، ودهستهم كراهيتهم ليتحولوا إلى وحوش ظالمة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إذا لم تستطع أن تحقّق كينونتك الذاتية، فستضطر لأن تتخفى في “معطف” الآخرين، وحينها تبدأ أو تعرّض من حولك من الناس للظلم الذي كنت تتعرض له في يوم من الأيام. وللأسف، فإن الإعلام الموالي للحكومة تحوّل إلى كائن ممسوخ. إذا سألتموهم سيقولون إنهم لا يزالون “متدينين” و”محافظين” و”إسلاميين”، ولكن إذا نظرتم إلى ما ينشرونه من أخبار سترون كل العيوب التي كانوا يشتكون منها في الماضي مثل الأكاذيب والافتراءات وحملات التشويه وما إلى ذلك.[/box][/one_third]عليّ أن أقول، وأنا في غاية الأسف، إن أحدًا لم يتعب نفسه في التفكير في الخلفية النظرية للصحافة لدى الطبقة المحافظة في تركيا. ولم يبحث أحد عن أجوبة لأسئلة من قبيل: ما هو الخبر؟ ما يجب مراعاته في أثناء نقل الخبر؟ لماذا الفرق بين الخبر والتعليق مهم؟ ولهذا السبب، إذا نزعتم القناع الذي ترتديه وسائل الإعلام التي تعتبر نفسها “إسلامية محافظة”، لخرج من تحته التصرفات القمعية المعروفة. فروح كل مهنة تجد لنفسها جسدًا تحلّ به بفضل النقاشات النظرية والمواقف الدائرة حولها. فإذا لم تتعاملوا مع أية واقعة بالروح التي تناسب شخصيتكم ولجأتم إلى التكلف، تتحول هويتكم الدينية – القومية – الأيديولوجية إلى هراء، وتتحول جريدتكم التي تصدرونها إلى قطعة قماش بالية. وهذا ما يحدث حاليًا للإعلام المؤيد لحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا.
إذا لم تستطع أن تحقّق كينونتك الذاتية، فستضطر لأن تتخفى في “معطف” الآخرين، وحينها تبدأ أو تعرّض من حولك من الناس للظلم الذي كنت تتعرض له في يوم من الأيام. وللأسف، فإن الإعلام الموالي للحكومة تحوّل إلى كائن ممسوخ. إذا سألتموهم سيقولون إنهم لا يزالون “متدينين” و”محافظين” و”إسلاميين”، ولكن إذا نظرتم إلى ما ينشرونه من أخبار سترون كل العيوب التي كانوا يشتكون منها في الماضي مثل الأكاذيب والافتراءات وحملات التشويه وما إلى ذلك.
نرى أنهم قد تبنّوا في هذه الأيام أخطر طريقة كانت متبعة في الماضي: الاستهداف، فالنظام الإعلامي في القديم كان كائنًا شاذًا تمخّض عن “تركيا القديمة”، حيث كان بإمكان هذا الكائن أن يتحوّل إلى وحش في أية لحظة من أجل تنغيص حياة الناس. أما إعلام اليوم فهو نتاج عقلية “تركيا القديمة” ولا يمُت بصلَة إلى “تركيا الجديدة” التي يتحدثون عنها.
فكيف كان النظام القديم في تركيا؟ كان من يحكمون تركيا في الماضي يستهدفون أي شخص أو جماعة لا يرغبون فيها بالأكاذيب وحملات التشويه القذرة، إلى أن يهتزّ اعتبار هؤلاء الأشخاص، وتصدر أوامرُ بضربهم وقتلهم! وكانت حجة المحرّضين المساكين (!) جاهزة دائماً، فكانوا يتحدثون عن “الشباب المنكسرين المغلوبين أمام المشاعر الوطنية” و”الأشخاص الذين تمت الإساءة إلى مشاعرهم القومية”. ويبدأ بعد ذلك الإعلام الموجَّه بنعت الأشخاص المستهدفين بـ”الأعداء” و”الخونة” و”الجواسيس” وما إلى ذلك من الأوصاف البشعة. ويا له من تشابه عجيب أن تبدأ جميع المؤسسات الأمنية بالدولة من جهاز المخابرات ومديرية الأمن والجيش، بالتدخل للتعامل مع الأشخاص المستهدفين، وترتكَب أعمال مخالفة للقانون من أجل التخلص من “الخونة” والقضاء عليهم.
وفي حقيقة الأمر، فإن الذي تعرض له الكاتب المعروف “صباح الدين علي” عام 1948 يعتبر دليلًا صادمًا على المصير الذي تعرض له العديد من المثقفين في تركيا. دخل السجن، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسجن فيها. وإلى الآن تردد ألسنتنا الشعر الذي نظمه داخل السجن، إذ يقول “لا تنحنِ ولا تعبأ بأي شيء يا قلبي”. وقد أطلقت السلطات سراحه، لكن المسؤولين لم يسمحوا له بإيجاد عمل. فأراد أن يغادر تركيا، فلم يمنحوه جواز سفر. وأراد أن يعود إلى مسقط رأسه ببلدة جومولجينه الواقعة في تراقيا الغربية بشمال شرق اليونان، لكنه قُتل من قِبل عميل لجهاز المخابرات التركية بعدما أخفى هويته وأقنعه بأنه بإمكانه مساعدته في الوصول إلى بلده. وتقول المصادر الرسمية إن القاتل ارتكب جريمته بدافع “استفزاز المشاعر الوطنية”. وقد اعتُقل عميل المخابرات تحت ضغط ردود الأفعال الكثيرة. إلا أنه لم توقع عليه عقوبة بالسجن إلا لأربعة أعوام، في حين كان يجب أن يسجن لمدة 24 عامًا، بل الأدهى من ذلك أنه أطلق سراحه بعد أسابيع قليلة مستفيدًا من قرار عفو.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]اليوم نرى الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية يميل إلى تطبيق الأساليب القديمة والقذرة بنهج صعب المراس وطريقة بعيدة كل البعد عن الصحافة الاحترافية. يشوّهون صورة الأشخاص وينشرون في حقهم أخباراً محرضة منذ أشهر. ولقد استهدف ذلك الإعلام العديد من الصحفيين، كنتُ شخصيًا من ضمنهم، لكن على هذا الإعلام وأصحاب القوى الذين يقفون وراءه أن يعلمون جيدًا أنه إذا تعرض أي شخص من الذين يهاجمونهم لأي ضرر، سيوصفون بصفة القتلة التي ستلازمهم حتى مماتهم دون أن يستطيعوا إنقاذ أنفسهم منها.[/box][/one_third]النماذج كثيرة، لكن لا داعي لسرد هذه الحوادث في هذا المقام حتى لا تصابوا بالاكتئاب والتشاؤم. ذلك أنه لا يوجد أي قاتل مات وهو مطمئن، كما لم ينسَ التاريخ الظلم أبدًا…
وأكتفي هنا بسرد أكثر نموذجين إثارة، وهما المغني الكردي أحمد كايا والصحفي الأرميني الأصل هرانت دينك؛ إذ إن كليهما تعرض للاستهداف. الأول مات في الغربة في باريس، والثاني قُتل برصاصة غدر وسط أحد شوارع إسطنبول. والآن ينكر من استهدف هاتين الشخصيتين من الصحفيين زملائنا هذه الادعاءات، لكن إذا نظرنا إلى تلك الفترة بعين الحاضر فهل كانوا نشروا هذه الأخبار؟ لا أعتقد ذلك.
اليوم نرى الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية يميل إلى تطبيق الأساليب القديمة والقذرة بنهج صعب المراس وطريقة بعيدة كل البعد عن الصحافة الاحترافية. يشوّهون صورة الأشخاص وينشرون في حقهم أخباراً محرضة منذ أشهر. ولقد استهدف ذلك الإعلام العديد من الصحفيين، كنتُ شخصيًا من ضمنهم، لكن على هذا الإعلام وأصحاب القوى الذين يقفون وراءه أن يعلمون جيدًا أنه إذا تعرض أي شخص من الذين يهاجمونهم لأي ضرر، سيوصفون بصفة القتلة التي ستلازمهم حتى مماتهم دون أن يستطيعوا إنقاذ أنفسهم منها.
هلا نظرتم إلى الوضع الذي أصبحت عليه تركيا اليوم؟ بدءًا من أحداث متنزه جيزي بارك في إسطنبول، مرورًا بكارثتي منجمي سوما وأرمينيك، والجرائم مجهولة الفاعل التي شهدتها يومي 6 و 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ووقائع مقتل الشرطيين وجنود الجيش مجهولة الفاعل… فلقد شهدت تركيا خلال هذه الفترة الكثير من الأحداث التي لم يحاسَب عنها أحد…
هناك عاقبة سوء لتغذية هذه الأجواء المظلمة. ونحن مضطرون إلى أن نقول في نفس واحد: إن الطريق الذي تسيرون فيه خطأ، فبهذه الطريقة لن تقضوا على أنفسكم فحسب، بل ستقضون على تركيا بأسرها. ولا يكن لديكم أدنى شك في أن تركيا ستتغلب على هذه الحالة الجنونية أيضاً. إلا أن المتضرّرين الحقيقيين من هذه الحالة لن يكونوا هؤلاء “المتعصبين غير الناضجين” الذين حولوا تركيا إلى مستشفى للمجانين، بل سيكون السُذّجَ الأبرياء الذين يصدّقونهم بسهولة! وا أسفاه على هؤلاء…
تركيا تسير نحو التعصب
انتقد الشاعر التركي الراحل نجيب فاضل قيصه كورك الشخصية التابعة والمطيعة طاعة عمياء، واستخدم مصطلحات شديدة اللهجة لمهاجمة الجهل والتعصب والتزوير. وكان يقول إن الأشخاص الذي يصفهم بـ”الأبطال المزيفين” لايعانون من “مخاض الفكر”. وكان الأستاذ قيصه كورك محقًا تمامًا فيما قال.
إن تركيا اليوم تسير بسرعة كبيرة نحو “التعصب”. فإذا كنت لا تدعم حزبًا بعينه، فستتعرض للظلم، وسيرسلون موظفي الضرائب إلى شركتك، وستنتَهك أبسط حقوقك الديمقراطية، وسيشرَع في حقك كل أنواع الإهانة والإساءة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن تركيا اليوم تسير بسرعة كبيرة نحو “التعصب”. فإذا كنت لا تدعم حزبًا بعينه، فستتعرض للظلم، وسيرسلون موظفي الضرائب إلى شركتك، وستنتَهك أبسط حقوقك الديمقراطية، وسيشرَع في حقك كل أنواع الإهانة والإساءة.[/box][/one_third]أعلن مسؤولو وقف فرقان الخيري تمردهم أواسط الأسبوع الماضي، وزعموا أنهم لم تُخصص لهم صالة اجتماعات، وأنهم ظُلموا ووضعت العراقيل أمامهم. وهم يدّعون أن حزب العدالة والتنمية سيطرت عليه قوى عميقة، حيث اتفق الحلفاء الجدد للحزب على “القضاء على الجماعات الدينية كافة”. وهم (مسؤولو وقف فرقان الخيري) محقون في ذلك.
لاريب في أن احتكار الدولة لطباعة كتاب” رسائل النور” لبديع الزمان سعيد النورسي، ووضع يدها عليها أمر فظيع وفي غاية السوء. فالذي يحتكر اليوم حقوق نشر رسائل النور، مَن يدري أي الكتب التي سيحتكر “حق تأليفها” في المستقبل.
تشعر فئة كبير من أتباع جماعة النور بالضيق والضجر بسبب تمييز حزب العدالة والتنمية ومحاباته لأنصاره على حساب الآخرين. وكانت مخاوف أتباع جماعة السليمانية بشأن الحزب، قد بدأت مبكرًا في سنواته الأولى، وقد أثبتت الوقائع التي شهدناها أنهم كانوا على حق فيما قالوا.
لقد وصلت تركيا إلى مرحلة لايستطيع خلالها حزب سياسي أن يعقد مؤتمر تأسيسه في ردهة أحد الفنادق. وكان الدور هذا الأسبوع على وزير الداخلية السابق إدريس نعيم شاهين؛ إذ مُنع من أن يحضر في صالة أحد الفنادق قبل سويعات من عقد مؤتمر الإعلان عن تأسيس حزب جديد.
وفي الختام أود أن أقول إن علينا ألا ننسى أن الديمقراطية تعتبر نظام تحمُّل مبني على قبول الآخر بكل اختلافاته. وإن لم يكن الوضع كذلك، لما كان حزب العدالة والتنمية قد تأسس من الأصل، ولما كان قد كبر ووصل إلى سدة الحكم. وهو ما يعني أن الضغوط لم تحبس الناس في مكان ضيق إلى هذه الدرجة قبل ذلك، كما لم تشهد تركيا تأسيس نظام مرعب لهذه الدرجة منذ أيام حكم الحزب الواحد خلال الربع قرن الذي تلى تأسيس الجمهورية.