علي تشولاك
لقد توقف الجميع في تركيا ليشاهدوا حذاء العم رجب المطاطي الأسود. بعدما فقد الرجل العجوز ابنه في حادثة منجم أرمينيك الواقع في محافظة كارامان جنوب غرب تركيا.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن الأحذية المطاطية السوداء والأحذية المصنوعة من النايلون هي الاسم الآخر للفقر في قرى الجبال المنتشرة في مختلف أنحاء تركيا. فعندما تبلى هذه الأحذية يصلحها أصحابها ليلبسوها من جديد. وهذا أمر لا يستدعي التعجب، فالظروف تتغير ويزداد نصيب الفرد من الدخل القومي، وقد يمنح المواطنون حوافز تشجيعية، لكن كل هذا لا يشعر به إلا أعضاء الحزب الحاكم، ولا يلاحَظ إلا في المحافظات والمدن والبلدات الكبرى، لكنه لايتعداها ليصل إلى القرى الفقيرة الواقعة على سفوح الجبال.[/box][/one_third]يكتب الصحفيون عن قصة العم رجب، ويصوره المصورون، وتنقلب مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية رأسًا على عقب حزنًا وكمدًا على حالته التي يرثى لها! ما أقساه من مشهد يدمي القلوب! رجل عجوز يرتدي حذاءً مطاطيًا أسود مهترئاً، غير أنه لا يهتم بهذا الحذاء الذي يعبّر عن قلة حيلته القديمة والكبيرة، ويعتبر جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية. فاشترت له “المحافظة” حذاءً جديدًا “مطاطياً” أيضاً، فرضي بلبسه بعد أن تردّد في قبوله أو رفضه. لأن وضعه لم يكن يسمح له بالتفكير في صفة الحذاء المقدَّم إليه.
أما نحن فقد قلنا منذ زمن طويل إن “هناك قرية نائية بعيدة، وإن لم نذهبْ ولم نرَها فهي قريتنا”، فلم نعد نفكّر في أحوال تلك القرى وأهلها وتركناهم إلى مصيرهم بحيث لم نعد نشعر بأي مسؤولية تجاههم.
أما هؤلاء القرويون فظلوا يعيشون هناك دائمًا في صمت. فيما لم نكن نسمع عنهم ولا نعرف عنهم شيئًا. لكن حتى قرى محافظات غرب تركيا المتقدمة كان يعيش بها الآلاف من الفقراء والمعدمين الذين يحيون حياة بدائية بسيطة.
إن الأحذية المطاطية السوداء والأحذية المصنوعة من النايلون هي الاسم الآخر للفقر في قرى الجبال المنتشرة في مختلف أنحاء تركيا. فعندما تبلى هذه الأحذية يصلحها أصحابها ليلبسوها من جديد. وهذا أمر لا يستدعي التعجب، فالظروف تتغير ويزداد نصيب الفرد من الدخل القومي، وقد يمنح المواطنون حوافز تشجيعية، لكن كل هذا لا يشعر به إلا أعضاء الحزب الحاكم، ولا يلاحَظ إلا في المحافظات والمدن والبلدات الكبرى، لكنه لايتعداها ليصل إلى القرى الفقيرة الواقعة على سفوح الجبال. فجهود القروي ليست لها قيمة، كما أن ظروف معيشته لا تتغير أبدًا. فهو ينظر فقط من بعيد إلى تطور المدن. الحكومات وأنظمة الحكم تتغير، وتحدث انقلابات عسكرية، ثم يأتي الحكم الديمقراطي، لكن ظروف القرويين كما هي لا تتبدل! تظل قراهم دائمًا بعيدة وفقيرة. أما سكان المدن المتقدمة فلا يعرفون شيئًا عن هذه القرى الفقيرة، ولايذهبون إليها إلا عند وقوع الكوارث كالزلازل والحرائق وما إلى ذلك. فيندهشون حين يرون هؤلاء القرويين الفقراء، فيجرون عنهم تقارير صحفية، ويلتقطون معهم الصور، ويكتبون عنهم الأخبار. وعندما تراهم الحكومة، يرق قلبها، فترسل إلى العم رجب زوجًا من الأحذية، ثم سرعان ما تغادر القرية إلى غير رجعة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الآن تدمي قلوبنا حزنًا على حالة العم رجب، لكن أقول لكم إننا سننسى هذا الأمر برمته بعد أسبوع لا أكثر. ثم سنسمع أخبارًا مؤلمة تأتي من مدن وقرى أخرى. ولن تنتهي معاناة هؤلاء القرويين الفقراء المعدمين ما لم تنتهِ هذه السياسة السوداء، والمحسوبية، والاستغلال، والظلم في توزيع الدخل، والنظرة العمياء للبشر.[/box][/one_third]الكارثة قد حدثت، ومن ثم ذهب مسؤولو الحكومة إلى المنجم الذي دُفن به جثمان نجل العم رجب والعمة عائشة في قرية أرمينيك. زار المدينة وفد من الوزراء الذين يركبون سيارات المرسيدس الفاخرة وتحميهم الحواجز ورجال الأمن وترافقهم حشود الصحفيين والمراسلين. وبعدها عادوا إلى حيث أتوا. كلهم سيعودون! أما العم رجب فسيعيش قليل الحيلة مع حذائه المطاطي الأسود وأحفاده اليتامى إلى أن يشاء الله له أن تحمل رجلاه النحيلتان جسده الهزيل… لكن لا تقلقوا، فالإنسان لا يموت لأنه ارتدى حذاءً مطاطيًا باليًا.
الآن تدمي قلوبنا حزنًا على حالة العم رجب، لكن أقول لكم إننا سننسى هذا الأمر برمته بعد أسبوع لا أكثر. ثم سنسمع أخبارًا مؤلمة تأتي من مدن وقرى أخرى. ولن تنتهي معاناة هؤلاء القرويين الفقراء المعدمين ما لم تنتهِ هذه السياسة السوداء، والمحسوبية، والاستغلال، والظلم في توزيع الدخل، والنظرة العمياء للبشر.
كان الفيلسوف الجزائري – الفرنسي ألبير كامو قد قال: “إذا أردتم أن تعرفوا دولة ما، فانظروا كيف يموت الناس هناك”. ويمكن أن نقول: “إذا أردتم أن تعرفوا دولة ما، فانظروا كيف يعيش فقراؤها!”.
لقد وقفت تركيا عن بكرة أبيها تنظر إلى حذاء العم رجب، المطاطي البالي، تنظر فقط إلى الظاهر! بيد أن الألم والفقر يقبعان في الداخل، في الأعماق، وأما نحن فلا نهتمّ إلا بالمظاهر فقط.