مصطفى أونال
إذا كانت جميع الأعين في تركيا قد اتجهت نحو اجتماع مجلس الأمن القومي، فهذا يعني أن البلاد تشهد “عملية استثنائية”.
لايكن لديكم أدنى شك، فإذا كانت قرارات مجلس الأمن القومي قد احتلت مراتب متقدمة في أجندة الشارع التركي، فهذا يعني أن “هناك خروجًا على المألوف” ،فهل هذا الوضع ينطبق على الوقت الراهن؟ للأسف، نعم.. وللتأكد من هذا يكفيكم النظر إلى التعليقات والتحليلات على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائم، لتروا أنه ليس هناك حديث سوى عن مجلس الأمن القومي وقراراته.
كان موعد اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الذي عقد يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قد تحدد قبل انعقاده بأيام، وكان الرئيس رجب طيب أردوغان قد لفت بنفسه الانتباه لهذا الاجتماع بقوله “انتظروا اجتماع مجلس الأمن القومي الذي سينعقد نهاية أكتوبر”، وأطلق عنوانًا على هذه الجلسة “الكيان الموازي والكتاب الأحمر” ،وكان يقصد الحديث عن جماعة الخدمة التي حمّلها مسؤولية فتح التحقيق في قضية الفساد والرشوة التي كُشف عنها يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
عقد مجلس الأمن القومي التركي اجتماعه في ظل الكوارث. وقد كان 18 عاملًا قد حاصرتهم المياه في أحد المناجم بمدينة كارامان. كما أظهر تنظيم حزب العمال الكردستاني PKK وجهه الإرهابي بشن بعض الهجمات الإرهابية على الجنود، حيث سقط جندي برتبة عريف شهيدًا نتيجة هجوم شنته مجموعة من الملثمين. كما فُتح ممر من تركيا لعبور قوات البشمركة الكردية إلى شمال سوريا. والمشاهد لم تكن مختلفة عما حدث سابقا في معبر خابور الحدودي بين تركيا والعراق (حيث دخل منها بعض عنار التظيم الإرهابي PKK إثر نزولهم من الجبال تاركين أسلحتهم).
وفي الواقع، كانت الأجندة الطبيعية لمجلس الأمن القومي التركي مثقلة بالعديد من القضايا المهمة، وأضيف إليها مسألة “الكيان الموازي”. ولقد استغرق اجتماع المجلس وقتًا طويلًا، ليدخل تاريخ تركيا كأطول اجتماع يعقده مجلس الأمن القومي، حتى أنه استغرق وقتًا أطول من الذي استغرقه ذلك الاجتماع الذي عُقد إبان انقلاب 28 فبراير عام 1997. بدأ آخر اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد ظهر يوم 30 أكتوبر، وانتهى في ساعات الصباح الأولى من يوم 31 أكتوبر. ولا شك أن طول مدة الاجتماع تعتبر مؤشرًا رئيسًا على أن هذا الاجتماع كان استثنائيًا.
من المعروف أن محتوى اجتماعات مجلس الأمن القومي هي من أسرار الدولة، ولا يمكن اطلاع الرأي العام بشكل مفصل على ما تحدث به أركان الدولة في هذا الاجتماع. لكن رسائل الاجتماع تنعكس على البيان الختامي. وتكون هذه الرسائل غير صريحة أحيانًا وصريحة أحيانًا أخرى… خرج نص مختصر من هذا الاجتماع الطويل، يتضمن 6 مواد، والمادة الأولى منه تتألف من جملتين…
إن لغة البيان هي أول ما لفت انتباهي. فلغة الدولة معروفة للجميع؛ إذ إننا شهدنا – دائمًا – استخدام الدولة عبارات باردة وغامضة ومرنة. لكننا نصادف هذه المرة، للمرة الأولى، عبارات من قبيل “كيان يزاول أنشطة غير شرعية تحت غطاء شرعي”. فهل يمكن لأحد ألا يستغرب هذا الأسلوب؟ فهذا التعريف يمكن أن يدرج تحته أي كيان أو تنظيم، بما في ذلك كل الأوقاف والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني وحتى الأحزاب السياسية وليس حزبي السلام والديمقراطية (BDP) والشعوب الديمقراطية (HDP) وحدهما. كما أنكم تجدون كثيرين يمكن أن يدرجوا حزب العدالة والتنمية الحاكم ضمن إطار هذا التعريف بتعليقاتهم. وربما يخرج علينا أحدهم غدًا ليقول “كيان غير شرعي يختفي تحت ستار حزب سياسي”. وباختصار، فإن لغة البيان وأسلوبه شائكان.
ووردت في الفقرة الأولى من البيان، الرسالة التي انتظرها الجميع بشغف كبير… فقد تناول المشاركون في الاجتماع، بشكل مفصل، “المواضيع” التي تهم “أمن الدولة والنظام العام”. ولم يشر البيان، كما توقع البعض، إلى كيان محدد بشكل صريح. كما لم ترد حتى إشارة ضمنية إلى “الكتاب الأحمر”. ولم نرَ إلا عبارة بصيغة الجمع من قبيل “الكيانات الموازية والتشكلات غير الشرعية”.
كان الرئيس أردوغان يتحدث، منذ أشهر، عن جماعة الخدمة، بضمير المفرد، بصفتها “الكيان الموازي”. واستثنى من ذلك اتحاد الجماعات الكردية (KCK). ويعرف الجميع أن حزب العدالة والتنمية لم يعد يعتبر اتحاد الجماعات الكردية، في الآونة الأخيرة، خطرًا وتهديدًا يحدق بأمن تركيا واستقرارها. بل إنه مهّد الأرضية المناسبة لمواصلة هذا التنظيم، الذي يعتبر “الكيان المدني لحزب العمال الكردستاني الإرهابي PKK “، فعالياته بأريحية تامة. وقد أصدر قانونًا لتأكيد هذا الأمر.
من الصعب أن نقول إن بيان الاجتماع عَكَسَ رغبات الرئيس أردوغان كما كان مرجوًا. لايفهم خطأ، وأنا لا أريد أن أقول، إن جماعة الخدمة استثنيت من إطار البيان، وأنا ألفت نظركم إلى أن اسم الجماعة لم يرد صراحةً في نص البيان. وعلى أية حال، فإن أردوغان كان يريد أن يعبَّر عن هذا بشكل أوضح. وكان نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش قد أدلى بتصريح أمس تحدث فيه عن الكيانات الموازية، وقال فيه “جميع العناصر الذي تهدد الأمن الوطني، بما في ذلك اتحاد الجماعات الكردية”. ولا يوجد مَن لا يعرف مهارة الدولة فيما يتعلق بمسألة “التهديدات الداخلية”. وعلى ما يبدو أنه لم يعد هناك أي مجموعة من منظمات المجتمع المدني إلا واعتبرَت خطرًا وتهديدًا يحدق بأمن الدولة. ويمكن تضمين هذا الإطار جميع الجماعات الدينية، وليس جماعة دينية واحدة فقط. لا سيما وإن حزب العدالة والتنمية أحيا عادة الدولة القديمة في تركيا.
لايمتلك مجلس الأمن القومي أية سلطة تنفيذية. وتعتبر قراراته في نطاق التوصيات ليس إلا. وأما خطة العمل فالحكومة هي التي تطورها. وكانت الفئة التي وصفتها الحكومة بـ”الكيان الموازي” تعامَل معاملة العدو، مع انتهاك التقاليد القانونية وتعاملات الدولة. فما الذي ستضيفه الحكومة إلى هذا بعد اجتماع مجلس الأمن القومي؟ وما الذي يمكن أن يفوق “مطاردة الساحرات”.
يمكننا القول إن تركيا دخلت مرحلة استثنائية عقب اجتماع مجلس الأمن القومي الذي عقد يوم 30 أكتوبر الماضي. فيمكنكم أن تشعروا بالقلق من سير الأمور في الوقت الراهن…