بقلم: عبد الحميد بيليجي
زار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي اشتهر بعدله المثالي المتداول على الألسنة، الأماكن المقدسة في مدينة القدس المفتوحة بعدما استلم مفاتيحها من يد واليها البطريرك صفرونيوس.
زار خليفة المسلمين المسجد الأقصى، ثم أراد رؤية كنيسة القيامة المقدسة التي يعتقد بحسب العقيدة النصرانية أن عيسى عليه السلام صُلب فيها وغسِل ودفن بها، ورافق صفرونيوس سيدنا عمر أثناء زيارته، فطلب منه أن يصلي في ذلك المكان، أي في كنيسة القيامة مثل ما صلى في جميع الأماكن بالمنطقة، لكن عمر رضي الله عنه رفض هذا الطلب وأجابه بهذا الرد التاريخي: “إذا صليت في هذه الكنيسة، سيحولها المسلمون فيما بعد إلى مسجد” ،ثم صلى في مكان خالٍ يقع على بعد 10 أمتار جنوب الكنيسة، وشيّد المسلمون باسمه جامعًا في هذا الموضع كما تنبأ سيدنا عمر.
وكان عمر رضي الله عنه قد أعطى جميع سكان القدس ضمانًا بممارسة شعائرهم الدينية بحرية قبل أن يغادر المدينة، وجاء في وثيقة العهد التي كانت تحمل توقيع الخليفة وكبار القادة، ما يلي: “إن هذه هي وثيقة الأمان التي يمنحها عبد الله وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل القدس، حيث يضمن أمير المؤمنين حماية أرواح سكان المدينة وممتلكاتهم، سواء كان بصحة جيدة أو كان سقيمًا، كما يتعهد بعدم المساس بأماكن عبادتهم وصلبانهم ودينهم، هذا إضافة إلى أن السكان المسلمين لن يخربوا الكنائس، ولن يتخذوها سكنًا، وسيحتفظ أهل المدينة من النصارى بجميع الحقوق التي كانوا يمتلكونها، ولن يتعرضوا لانتهاك حقوقهم أو ممارسة الضغط عليهم فيما يتعلق بمذاهبهم، كما لن يتعرض أي أحد منهم إلى أي ضرر كان، ونشهد الله والرسول والصحابة والمؤمنين على هذه المعاهدة”.
لم يكن هذا المفهوم الأساسي في تعامل المسلمين مع غيرهم، خاصا بتلك الأيام المتميزة في صدر الإسلام، بل إنه استمر كذلك أيام الدولة العثمانية، وتعتبر الوثيقة التاريخية الواردة في كتاب يحمل عنوان: “مقدونيا تحت الحكم العثماني”، نموذجًا يعكس هذا المفهوم في منطقة شبه جزيرة البلقان.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] إن حماية الهوية المعنوية الأصيلة والمتميزة لتركيا يحمل الأهمية نفسها التي يحملها استقلالها السياسي، غير أنه – للأسف – هناك فئة من المسلمين من أصحاب الفهم المشوّه يضرّون الإسلام والمسلمين أكثر من أعداء الإسلام أنفسهم.[/box][/one_third]وتروي الوثيقة أن يهوديًا من أهالي أسكوب، يدعى ياكو، تقدّم بطلب إلى الوالي لبيع الخمر في دكانه الواقع في سوق” تخته قلعة” يوم 1 أغسطس/ آب 1870، فأُرسل الطلب، في اليوم التالي، إلى البلدية للتحقق منه بـ”حيادية”، وبعد مرور ستة أيام، أجاب مجلس المدينة على اليهودي، بقوله: “لا مانع لدينا من بيع الخمر في المكان المذكور، لكن بما أن الدكان يطل على باب كنيسة، فنرى أنه سيكون من المناسب أخذ رأي مجلس ليفا الإداري”، أما مجلس ليفا فقد رفض الطلب بحجة “أن الدكان يطل على أحد أبواب الكنيسة، وأن أحدًا لا يأمن مخاطر بيع الخمور وتناولها في هذا المكان الذي يمرّ به الناس باستمرار”.
وفي الوقت الذي نمتلك فيه إرثًا كهذا، يكفينا أن ننظر إلى ما يحدث في تركيا والمنطقة المحيطة بها لنفهم ماوصلنا إليه اليوم، تجدون الجميع يتحدثون عن الدولة العثمانية وعدلها، لكننا في الحقيقة نشهد اليوم في كل مكان همجية لا تعترف حتى بحق الحياة للمسلمين الذين يفكرون بشكل مختلف، ناهيك عن أتباع الديانات الأخرى.
يلحق الضرر الأكبر بالمسلمين بسبب تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش) والتنظيمات التي على شاكلته من تلك التي تحول المذاهب والأعراق والسياسة إلى تعصب، والتي تمخضت في الأساس بسبب الأنظمة الديكتاتورية مثل نظام صدام حسين في العراق ونظام آل الأسد في سوريا، وكذلك الاحتلال. ولا شك في أن قتل الأشخاص في وسط الشارع وقطع رؤوسهم، وحرق المؤسسات التعليمية والمعابد وتدميرها، والتنكيل بالشباب الذين يوزعون لحوم الأضاحي، وشيطنة (النظر إليهم ومعاملتهم كأنهم شياطين) الجماهير الغفيرة من خلال انتهاك القانون، لا شك في أن هذه الممارسات الظالمة هي نتاج العقلية ذاتها.
وقد أدركتُ وخامة هذا الوضع أكثر عندما استمعت إلى كلام أحد المواطنين الأتراك خلال عودتي على متن الطائرة من مدينة أرضروم قبل يومين، كان هذا الشخص صيدلانيا في الثلاثينيات من عمره، لديه لحية سوداء كثّة، ويرتدي طاقية على رأسه، وكان صديق له أوصاه بحلق لحيته وإلا سيستهدفه البعض بحجة أنه ينتمي إلى تنظيم داعش، ولم يحلق لحيته، لكن هناك من حلقوا لحاهم خوفًا من ذلك المصير المشؤوم، كان يشتكي ذلك الشاب من تشجيع التيارات الدخيلة على تركيا وانتشارها في منطقة الأناضول.
كان الشيخ محمد كسكين، أحد أتباع جماعة إسماعيل أغا في تركيا، قد حذر قبل وقت قريب من أشياء كهذه في مقال له نُشر بمجلة المعرفة، ويبدو أن استهداف حركة الخدمة، التي تعتبر اليوم أحد ممثلي التيار الإيجابي والبنّاء لأهل السنة في تركيا والعالم، من قِبل “كيان ضيق النطاق يؤيدون سلطة الأقلية”، هو من نتائج هذا المشروع، وإن كان البعض لم يدرك الخطر إلى الآن، ويقضي وقته بالاستماع إلى “أسطورة” الكيان الموازي، فإن السيد فتح الله كولن قد أحس بالضرر الذي قد يصيب المسلمين كافة، وبدأ يلفت الانتباه إلى هذه المشكلة من خلال البيانات التي ينشرها في دول أوروبا والولايات المتحدة، ومؤخرًا في وسائل الإعلام الكردية. وقد أدان الأستاذ كولن الجرائم التي يرتكبها داعش تحت عباءة الدين، مذكِّرًا بالخطر الداهم الذي يحدق بنا في كوباني (عين العرب)، وباعثًا برسائل تحتضن شعوب المنطقة بأسرها.
إن حماية الهوية المعنوية الأصيلة والمتميزة لتركيا يحمل الأهمية نفسها التي يحملها استقلالها السياسي، غير أنه – للأسف – هناك فئة من المسلمين من أصحاب الفهم المشوّه يضرّون الإسلام والمسلمين أكثر من أعداء الإسلام أنفسهم.