بقلم: سليمان صارغين
سيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وسلم) كان أرقى شخص في مكة قبل تكليفه بالرسالة أيضا، الجميع كانوا يحبونه ويثقون به، وكانت مراحل طفولته، وشبابه ورشده بمثابة تمهيد ومقدمة لنبوَّته.
لم يكذب في حياته ولو لمرة واحدة، وأهل مكة كانوا يسمونه ب”الأمين”، العصر الذي عاش فيه كان يسمى عهد الجاهلية، ولكن هذه التسمية كانت تُطلق على حياة غيره من الناس، أما هو فلم يكن له عهد بالجاهلية مطلقًا.
وكان من يريد الخروج في سفر يترك عائلته لديه (صلى الله عليه وسلم) لعلمه بأن محمدًا لا يرفع عينيه لينظر إلى الحرام، كما كان الذين يستأمنونه على أموالهم متأكدين من أنه لن يأخذ فلسا واحدًا من أموالهم، وكان من يود أن يعلم حقيقة أمر ما يذهب إليه ليسأله، لأنهم لم يُجربوا عليه الكذب قط.
في أول أيام النبوة صعد تلة الصفا وجمع الناس وقال: “أرأيتم إن أخبرتكم أنّ خيلًا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدّقيَّ؟ قالوا جميعًا بما فيهم أحد ألد أعدائه عمه أبولهب: طبعا نصدقك، فما جرّبنا عليك كذبًا” ،فقد كان عليه الصلاة والسلام ابن عبدالله وآمنة (هناك إشارة إلى المعنى اللغوي لهذين الاسمين).
هذا الإنسان المستثنى والنموذج الأمثل في الاستقامة والعفة والصدق والأمانة والشجاعة خرج على قومه الذين عاشرهم طوال 40 عاما، وأخبرهم بأعلى صوته الأخطاء الشائعة والمعتادة في حياتهم وعلى رأسها الأصنام التي كانوا يعبدونها، وطلب منهم أن يكونوا صادقين، وأوصاهم بعدم ظلم الفقراء والضعفاء، وألا يأكلوا أموال الناس بالباطل، وأراد أن يثني ذوي القلوب القاسية من أهل الجاهلية عن عادة وأد البنات، لكن الجبابرة الذين كانوا تمثالا للكبر ارتعدوا من كلام من عهدوه بالأمانة وسموه بـ” الأمين”، ورأوا أن عليهم الوقوف في وجهه ومنع انتشار هذا الدين الذي يدعوهم إليه حتى يموت هذا الدين وهو مازال في مهده.
فاجتمعوا على جناح السرعة في دار الندوة، التي كانت مقر المباحثات في كيفية إدارة مكة ومكان الاستشارة في شؤون الضيوف القادمين لزيارة الكعبة، وكانت هذه الدار قريبة من الكعبة، فهذه الدار التي كانت يجتمع فيها صناديد قريش وسادتها للتشاور فيما بينهم، تحولت منذ ذلك اليوم إلى وكر فساد للتخطيط في كيفية التخلص من محمد (صلى الله عليه وسلم) ودينه.
وتشاور كل من أبوجهل وأبولهب وعتبة وشيبة وأمية بن خلف فيما يمكنهم فعله طويلا فيما بينهم، فأرادوا أولاً أن يقللوا من قيمة وسمعة سيدنا محمد (عليه أكمل التحية) في نظر الناس، وبدأوا بشكل مفاجئ بالإساءة إلى رسول الله وإهانته بشتى الوسائل، وهم الذين كانوا قبل وقت قصير يحترمونه ويبجلونه ويجلون قدره لدرجة أنهم حكموه في كيفية نقل الحجر الأسود، حيث اتهموه بالجنون والتعرض للسحر والمس وادعوا أنه أبتر، واستهزأوا به بأسباب عديدة مثل عمله في رعي الغنم، ورأوا أن عليهم القيام بتلك الدعاية السوداء باستمرار لأن الناس قد يقعون تحت تأثيرها، ولذلك فالحملة الموجهة ضده كان يجب أن تستمر دون إبطاء في سرعتها.
وكان أبو لهب من المتطوعين في هذه المؤامرة، حيث جاب الخيام والطرق ليحدَّ بكل ما بوسعه من تأثير حديث سيدنا ومفخرة الكائنات في الناس، وكثير من الرعاع اتبعوا كبار المشركين في مكة محاولين إثبات ولائهم المطلق وكأنهم أكثر حرصًا من أسيادهم على هذا الأمر.
اتبعوا منهج هدم السمعة والإرهاب والتهديد والتعذيب، وكانت دار الندوة تشهد كل يوم مؤامرة غادرة جديدة، حيث بدأوا أولاً بإيذاء وتعذيب الضعفاء لعدم وجود من يدافع عنهم، ومنهم من عذب أبناءهم ومنع عنهم الطعام أيضًا، ولفوا بعضهم بالسجاد وحرقوه، وكان صهيب بن سنان قد فقد ذاكرته في تلك الحقبة العصيبة، وكان أبو فكيهة قد قيِّدت قدماه بالسلاسل الحديدية، وتعرض للتعذيب تحت حرارة شمس الظهيرة في الصحراء، وكانت علامات الحديد الحامي بادية على جسم خباب بن الأرط، وكانت صيحات بلال تدوي في سماء مكة حين يصرخ تحت الصياط: “أحدٌ أحد” وهو تحت التعذيب، وعائلة ياسر استشهدت وسقطت على التراب كبذور متناثرة.
وعلى الرغم من كل هذه الفظائع كان مصعب وعثمان وحمزة يأخذون نصيبهم من هذه الأحداث في حين كان الله سبحانه وتعالى الذي لا حدود لرحمته يخفف على رسوله وأصحابه ويسليهم بوحيه وألطافه الجزيلة في تلك الأيام المليئة بالمحن ويبرد عليهم حرارة هذا الجو الحامي.
وقد أراد شياطين دار الندوة أن يجربوا طريقة أخرى، فقد عرضوا على السيد في الدارين (صلى الله عليه وسلم) ،المال والجاه والثروة والشهرة وغيرها كما كانوا يعرضون ذلك على غيره، وكانوا قد اشتروا الكثيرين من الذين يظنون الحياة عبارةً عن الدنيا فقط، وهذا الأسلوب التي اتبعته قريش قد نجح في بعض المواقف المختلفة مع بعض الناس، لكنهم عادوا خائبين من عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي كان تعريف بالله للناس أقصى غاية في حياته حيث قال لهم: “لو أعطيتموني الشمس والقمر معا وليست الدنيا وحدها لن أترك هذا الأمر، حتى أهلك دونه”.
لكن المشركين لم يملوا ولم يكفوا عن محاولاتهم، فقرروا مقاطعة المسلمين ولم يعطوهم حتى الخبز، وعاقبوا من مر بجانبهم أو ألقى عليهم السلام، وظنوا أنهم سيثنون المسلمين عن دينهم عبر الجوع والخوف ومصادرة كل ما يملكون، ولم يدروا أن الإيمان هو جمرة مشتعلة في القلوب، وكانت كل مصيبة أو صدمة تزيد من تمسك المؤمن بدينه، أما السفلة الذين ما كان يهمهم سوى الدنيا فقد هددوا المؤمنين بمصادرة أموالهم وكان منهم من أنفق 500 بعير بأحمالها، ولما لم يجدوا أمامهم حلا غير محاولة اغتيال سلطان الأنبياء، فتح الله باب الهجرة لرسوله وأصحابه.
وعلى الرغم من رحيل المسلمين عن مكة فقد استمرت دار الندوة بحملات التشويه، وواظبوا على خداع الناس وتحريضهم حتى في البلدات المجاورة على المسلمين، لكن القلوب كانت بيد الله وبعد مايزيد على 20 عاما فُتحت أبواب مكةَ على مصاريعها كما فُتحت قلوبُ المكيين، وقد قابل نبي الرحمة الأحقاد الناجمة عن الانخداع بأكاذيب دار الندوة التي استمرت سنواتٍ طويلةً بقوله لهم: “لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء” وشرح لهم صدره أيضا واحتضنهم بشفقته.