ممتاز أرتركونه
عندما نسمع رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان يلفظ بإحدى مصطلحاته مثل “الدولة الموازية” أو “بنسلفانيا”، يجب علينا أن نجلس ونتساءل في هدوء وتمعن “ما مشكلته؟”، فهو مثل العازف الموسيقي الذي توجد أمامه آلة موسيقية حديثة، لها عدة أزرار تشبه آلة الأورج، يضغط على الزر الذي يريده، لتبدأ اسطوانات الـCD المعدة مسبقا في عزف ألحانها المعبأة بداخلها، لذلك عندما يتلفظ ويشيع افتراء “إن بنسلفانيا كذلك تقف وراء الأحداث”، لا يجب أن نعير اهتمامنا لكلماته الرنانة، وإنما إلى المقصد والمغزى الذي يريده من ورائها.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن أردوغان يفقد القوة والسلطة التي في يده بسرعة، ففي الوقت الذي كان يشغل فيه منصب رئيس الوزراء، كان يملأ شراعه بريح المشكلات والأزمات التي لا تنتهي، ويقطع الطريق بسرعة كبيرة، وفي الوقت نفسه يستطيع الوقوف صامدا، أما الآن فأسوار قصر رئاسة الجمهورية العالية تصد وتوقف الرياح.[/box][/one_third]أولا هناك من يترقبون ويراقبون أزرار الآلة الموسيقية، ليتلقوا الألحان الصادرة عنها وإضافة المزيد من النغمات إليها واستنساخها في أركان وأعمدة صحفهم، فهذا تصميم وتخطيط استراتيجي؛ ويمكن تفسيرها كالتالي: “يجب أن تشارك حركة الخدمة أيضا في أحداث الشغب التي يعرفها المجتمع” ،فماكينة الدعاية ستنتج ذخيرة مناسبة لهذه الاستراتجية وستبدأ وابلا من النيران، وسيتم إعلان أكثر القطاعات والطوائف سلمية (حركة الخدمة) والمتضررة كثيرا جراء الأحداث التي أثارها تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي (PKK )، والتي تلقت ضغوطا وتهديدات كبيرة، على أنها الفاعل والجاني في الأحداث الأخيرة التي تشهدها تركيا. إياكم أن تبحثوا عن العدل والإنصاف؛ انظروا وتأملوا في الهدف من كل ذلك. فالمشكلة مختلفة تماما؛ بل تتمثل في تدوير عجلة لعبة القوى بلا رأفة ولا إنصاف، والعمل على إنجاز تقدم لصالحهم.
إن أردوغان يفقد القوة والسلطة التي في يده بسرعة، ففي الوقت الذي كان يشغل فيه منصب رئيس الوزراء، كان يملأ شراعه بريح المشكلات والأزمات التي لا تنتهي، ويقطع الطريق بسرعة كبيرة، وفي الوقت نفسه يستطيع الوقوف صامدا، أما الآن فأسوار قصر رئاسة الجمهورية العالية تصد وتوقف الرياح، وبحسب لعبة السلطة والحكم التي يعرفها جيدًا، وعاش فيها تجارب كثيرة، فإنه يقف أمام خيارين؛ الأول، هو الشروع في حرب كلامية ضد معارضيه، ليُحوِّل ردود فعل المعارضة إلى رياح صالحة تملأ بها أشرعته، أما الخيار الثاني، فهو يعتمد على المجهود، بمعنى أن يستمر في التحرك، حتى ولو لجأ إلى استخدام المجاديف حتى يصل إلى منطقة الرياح التي ستدفع شراعه إلى الأمام، هذا ما يفعله بالضبط، فلنقم بتقييم ما فعله أردوغان في كل من خطابه أثناء جلسة الجمعية العامة بالأمم المتحدة، واجتماع المجلس الإستشاري لجمعية المصنعين ورجال الأعمال الأتراك، وتصريحاته أثناء رحلة عودته من قطر، بالإضافة إلى تصريحاته وخطاباته التي ألقاها في التجمعات الجماهرية التي نظمها في مدن طرابزون، وريزا، وجموش هانه، وبايبورت، فسنرى في كل منها نفس الاستراتيجية وهي : “تحرك، ولا تتوقف عن شن الحرب الكلامية”.
وبهذا يكون أردوغان قد بعث برسالة مفادها “مازلت موجودًا”، “أنا لا أنحصر في رئاسة الجمهورية”، ” مازالت القوة في يدي”.. هل هذا يفي بالغرض؟ فهو أسلوب تم تجربته واستخدامه من قبل؛ أي أنه يفي بالغرض المطلوب منه.
منذ عام 2011 تصادف انضمام سلطة الدولة والحكومة معًا وذلك يحدث في التاريخ نادرا ومعنى ذلك (دولة= حكومة + البيروقراطية)، وأردوغان عمد إلى استثمار الوضع بطريقة جيدة، وشرع في استغلال هذه الحالة لاستخراج نظام حكم انفرادي لنفسه، وفي 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي اصطدم بالحائط، وهم بعمل انقلاب على الأجهزة القضائية للدولة لإضعافها حتى يتخلص من هذا المأزق، ونجح في الخروج من هذا الوضع.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن مقولة “بنسلفانيا كذلك تقف وراء الأحداث” ماهي إلا جزء من حرب كلامية حادة وغير متوازنة، فأردوغان يحاول أن يحوّل المواقف إلى فرصة ليستثمر الكوارث والمصائب التي حولت البلاد إلى كرة من اللهب، لصالح حساباته الشخصية، ويستخدمها في إلقاء الإفتراءات على الذين يحاولون تخريب نظامه الفاسد وعرقلة عجلته.[/box][/one_third]ولكن هذه المرة بدأ زمام الأمور في الدولة تفلت من يديه وابتعدت السلطة عنه، وقد كانت انتخابات مجلس القضاة والمدعين العموم بمثابة ترقيع لأحد ثقوب الكيس، لكن الكيس المرقع مرات عديدة لم يعد يتحمل المزيد من الخياطة والترقيع، وأصبح يفقد السلطة التي في يده بسرعة كبيرة، فلتنظروا إلى الوضع كالتالي: لو لم يكن يخسر ويفقد سلطته وقوته، فهل كان سيستخدم أسلوبا كلاميا حادا من أجل أن يكون له محل من الاعراب، وهل كان يطوف الميادين وينظم التجمعات الجماهيرية الحزبية حتى يكون في الواجهة فقط.
ومن ناحية أخرى، فإن البرنامج الاقتصادي قصير المدى الذي أعلنه نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، علي باباجان، أعلن ضد أردوغان مباشرة في حقيقة الأمر، فالأولويات التي أعلنها علي باباجان في برنامجه لم يرحب بها لوبي عمليات الريع والتربح المقربة من أردوغان، فيمكنكم أن تفسروا الزيادة الطارئة التي نقلتها أخبار الصحف المدوية حول ريع المدن، مثل عملية بيع مدرسة الشرطة، الواقعة في حي أتيلار، بالشطر الأوروبي من إسطنبول، وتحويلها إلى مراكز تجارية ، على أنه قلق الحكومة من ضياع الحكم، فالملك على وشك الضياع ، وكم من الرشاوي قدمت، وأنفق الكثير والكثير؛لو كانوا لا يرون أن مقاليد البلاد وزمامها تنفلت من بين أيديهم،فهل كانوا سيصبحون بهذا القدر من القلق؟
إن مقولة “بنسلفانيا كذلك تقف وراء الأحداث” ماهي إلا جزء من حرب كلامية حادة وغير متوازنة، فأردوغان يحاول أن يحوّل المواقف إلى فرصة ليستثمر الكوارث والمصائب التي حولت البلاد إلى كرة من اللهب، لصالح حساباته الشخصية، ويستخدمها في إلقاء الإفتراءات على الذين يحاولون تخريب نظامه الفاسد وعرقلة عجلته، لو كان للأطفال المقتولين والمدارس التي حرقت وهدمت في مدينة حكاري، جنوب شرق البلاد نصيب، ولو مثقال ذرة، من مصالحه وتفكيره، هل كان يفرط في أسلوبه إلى هذه الدرجة؟
إن قوله “سنتخذ خطوات في مجلس الأمن القومي أيضًا” لا معنى لها إلا أنه يبعث رسالة مفادها “مجلس الأمن القومي لي” ، وهل سنصدق هذا؟ هناك حل وحيد وبسيط لوقف لعبة القوى غير العادلة وغير المنصفة، ومنع الإفتراءات التي لا أصل لها ولا تستند إلى دليل؛ وهو عدم إعطاء أية أهمية لأردوغان وعدم الانتباه إلى أقواله.