علي أصلان
يرد ذكر تركيا في الأجندة الأمريكية، عادةً، عندما تعرب واشنطن عن مطالب خطيرة لها في مجال الأمن القومي، وهذه هي الوضعية السائدة الآن. فترى الزعماء السياسيين والمسؤولين رفيعي المستوى في الولايات المتحدة لا يدَعُون الحديث عن تركيا أبدًا، كما أن هناك تبادلا مكثفا في الوفود والمحادثات بين أنقرة وواشنطن.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]نشهد تطورًا سريعًا في التعاون بين تركيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بمسألة حظر تحرك العناصر المتطرفة على حدودها الجنوبية. غير أن الأمريكيين يدركون أن ممارسة الضغط على تركيا لتزويد التحالف الدولي بقوات برية، لن يجدي نفعًا. ذلك أنهم لا يريدون الزّج بجنودهم إلى أرض المعركة.[/box][/one_third]ينشر الإعلام الأمريكي أخبارًا وتحليلات كثيرة تدور حول سؤال: “لماذا لا تقدم تركيا الدعم الكافي للتحالف الدولي ضد داعش؟” ،وأما أنقرة فتشعِر واشنطن أنها ربما تكون حليفًا صعبًا إذا دخلت عملية استغلال إمكانياتها العسكرية، على وجه الخصوص، حيّز التنفيذ.
يرى ماكس هوفمان، الخبير بمؤسسة (CAP) الفكرية الأمريكية، أن واشنطن لم تصدر حكمًا نهائيًا حول ما إذا كانت تركيا شريكًا “جديًا” في التحالف ضد داعش أم لا، وفي الوقت الذي تتواصل فيه المفاوضات بشدة (كما يقولون بالإنجليزية Jury is out)، يبعث المسؤولون الأمريكان رسائل عبر الإعلام مفادها “ننتظر المزيد من تركيا”. وباختصار، فهم يمارسون ضغطًا شديدًا على تركيا.
كان قد زار تركيا الأسبوع الماضي وفد أمريكي برئاسة الجنرال جون آلان المبعوث الخاص للرئيس باراك أوباما لمكافحة داعش. وقد وافقت الحكومة التركية على خطة تدريب المعارضة السورية وتجهيزها. إلا أن الطرفين لم يتوصلا إلى اتفاق حتى الآن بشأن استخدام قاعدة إنجيرليك الجوية التركية، أو أن التفاصيل الخاصة بهذا الموضوع لم تُعلن للرأي العام.
نشهد تطورًا سريعًا في التعاون بين تركيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بمسألة حظر تحرك العناصر المتطرفة على حدودها الجنوبية. غير أن الأمريكيين يدركون أن ممارسة الضغط على تركيا لتزويد التحالف الدولي بقوات برية، لن يجدي نفعًا. ذلك أنهم لا يريدون الزّج بجنودهم إلى أرض المعركة. وبقي أن أقول إنهم لن يسعدوا كثيرًا بدخول الجيش التركي الأراضي السورية؛ إذ ربما تتضرر التوازنات التي أسسوها مع روسيا وإيران وحتى مع نظام الأسد بطريقة غير مباشرة. كما يجب علينا ألا ننسى أن هذه العملية ربما تزعج أصدقاءهم العرب.
لا رغبة في رؤية جنود أتراك في كوباني
جرت مناقشة حول احتمال تدخل الجيش التركي بشكل مباشر ضد داعش، في إطار التدخل العسكري المحتمل في مدينة كوباني (عين العرب) شمال سوريا. وكان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قد صرح في لقاء سابق له بأن الأكراد والعراقيين والسوريين وغيرهم لا يرغبون في تواجد عسكري تركي في كوباني، وفي الواقع، فإن الولايات المتحدة هي الأخرى ضمن هذه القائمة، وقد كانت الإدارة الأمريكية ترغب في أن تفتح تركيا ممر تعزيزات إلى كوباني أكثر من إرسالها قوة عسكرية، ولقد شعرت واشنطن بالانزعاج من عدم تقديم أنقرة، التي لا تقبل وجود حزب العمال الكردستاني (PKK) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، أي إشارة في هذا الصدد، لكنهم لا يضغطون بشكل كبير على تركيا التي دفعت الجزء الأكبر من فاتورة تقديم المساعدات الإنسانية بعدما فتحت أبوابها أمام ما يقرب من 1.5 مليون لاجئ عربي، إضافة إلى أكثر من 100 ألف لاجئ كردي.
تسعى أنقرة لاستغلال أزمة داعش من أجل إجبار الولايات المتحدة على اتخاذ تدابير أكثر تأثيرًا إزاء نظام الأسد ومشكلة اللاجئين. أضف إلى ذلك أنها تمارس ضغطًا في سبيل إقامة منطقة حظر جوي على الجانب السوري من الحدود. وتشترط تركيا هذه النقاط لتنفيذ تعهدات عسكرية مهمة. لكن يبدو أنه من الصعب إقناع واشنطن بهذه الشروط؛ إذ أن البيت الأبيض، على وجه الخصوص، يعارض طلبات أنقرة، حتى وإن كان وزير الخارجية كيري وحتى وزارة الدفاع (البنتاجون) يبدوان أكثر تأييدًا ودعمًا لها، فالرئيس أوباما والفريق المقرب له مصرّون على أن يفرّقوا بين مسألة الأسد وتهديد داعش، ويحاولون تجنب جرّ بلادهم إلى مغامرة عسكرية في سوريا، ولا يرغبون في استفزاز القوى الدولية التي تدعم الأسد. كما أنهم يرتابون من اشتراط تركيا إقامة منطقة عازلة في سوريا لتقديم أقل قدر ممكن من الدعم العسكري للتحالف الدولي ضد داعش، مع معرفتهم بأن أنقرة لن تحصل على ما تريد.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد تسببت أزمتا سوريا وداعش في إدراك كل من واشنطن وأنقرة بأنه لا يمكن لإحداهما حسم الأمور بمفردها . فليس لأحد الحق في ادعاء أنه أكثر تفوقًا من الناحية الأخلاقية، وأنه أكثر ذكاءً من الناحية الإستراتيجية. فالأخطاء المرتكبة إلى اليوم كانت أكثر بكثير من الأمور الصحيحة. والأفضل هو أن ننظر أمامنا ونسعى لتخفيض الخسائر إلى أدنى مستوى دون الإبحار في مياه لا نعرف عمقها.[/box][/one_third]تنتشر في الولايات المتحدة تحليلات تشير إلى أن سياسة تركيا الحالية نابعة من “ضعف” و”قلة حيلة”، وليس من “قوة”. والظاهر أن أنقرة تخشى من تأثير المكاسب التي حققها الأكراد على المستويين السياسي والعسكري مؤخرًا، بشكل سلبي في توازنات الأمن الداخلي لديها؛ إذ أن تركيا تعتبر من أكثر البلدان التي يمكن أن تتعرض لتأثيرات الجماعات المتطرفة، كداعش، الأيديولوجية والتخريبية، وذلك بسبب موقعها الجغرافي وتركيبتها السكانية.
معاملة أردوغان بـ”قفازات الطفل”
تتابع واشنطن بعناية تجدد الصراع بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني. فالعنف في الشوارع يثير القلق بشأن استقرار إحدى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو). وأما السيناريو المثالي بالنسبة للولايات المتحدة فهو تصالح تركيا مع جميع الأكراد، بمن فيهم حزب العمال الكردستاني، من أجل تحقيق السلام الداخلي في تركيا وتقوية الجبهة المعادية لتنظيم داعش. لكن الإدارة الأمريكية لا تريد الدخول في المزيد من المشاكل الإستراتيجية، ولهذا فإنها لا تنوي ممارسة المزيد من الضغط على أنقرة بخصوص القضية الكردية ذات الجذور العميقة. هذا فضلًا عن أن الجبهة الرسمية في واشنطن لم تصدر أي “صوت عالٍ” إزاء موقف تركيا الحذِر مما يحدث في كوباني السورية. فلم يتعد الأمر سوى بعض اللوم الذي وجهه بعض الدبلوماسيين عبر الصحافة الأمريكية مع عدم الإفصاح عن هوياتهم. وإذا أردنا أن نستخدم تعبير ماكس هوفمان نقول أن سبب معاملة واشنطن للرئيس التركي أردوغان بـ”قفازات الأطفال”، أي بعناية تامة وحساسية مرهفة، على الرغم من مواقفه غير الديمقراطية والمعادية للغرب، هو القيمة الإستراتيجية التي تتمتع بها تركيا.
لا يمتلك الرئيس الأمريكي أوباما أي خيار سوى التعامل بدقة وعناية مع اللاعبين الدوليين الحساسين مثل تركيا. ذلك أن جرعة الانتقادات التي يتلقاها كل يوم داخليًا بشأن سياسته إزاء الشرق الأوسط، تزداد يومًا بعد يوم. وقد انضم كل من وزير الدفاع السابق ليون بانيتا وزميله الحزبي الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى قافلة “المدافع الثقيلة” التي تتهم أوباما بالتردد، أو التأخر أو التحركات الناقصة. لكن من الواضح أنه طالما ظل أوباما في الحكم، فإن موقف واشنطن المرجو إزاء نظام الأسد لن يتحقق. ولهذا السبب، فإنه من الأكثر واقعية أن تركز أنقرة على مكافحة داعش وتؤجل مسألة محاسبة الأسد إلى ما بعد أوباما أو تتراجع بنفسها قليلًا إلى الوراء.
لقد تسببت أزمتا سوريا وداعش في إدراك كل من واشنطن وأنقرة بأنه لا يمكن لإحداهما حسم الأمور بمفردها . فليس لأحد الحق في ادعاء أنه أكثر تفوقًا من الناحية الأخلاقية، وأنه أكثر ذكاءً من الناحية الإستراتيجية. فالأخطاء المرتكبة إلى اليوم كانت أكثر بكثير من الأمور الصحيحة. والأفضل هو أن ننظر أمامنا ونسعى لتخفيض الخسائر إلى أدنى مستوى دون الإبحار في مياه لا نعرف عمقها.