بقلم: ممتاز أرتركونه
يشترك اللاجئون الأكراد الذين نجوا بحياتهم وفروا من مدينة كوباني (عين العرب) الحدودية شمال سوريا إلى الأراضي التركية، مع الأتراك الذين استقبلوهم على أراضيهم، في المصير ذاته.
إن من لم يفهموا هذه الأحداث في إطار عمقها وشمولها، الذي يعود إلى ما قبل ألف عام على الأقل، لن يجدوا الحلّ أيضاً فلقد أصبحت تركيا، من الآن فصاعدًا، دولةَ وملجأ لجميع الأكراد على وجه البسيطة أكثر من أي وقت مضى، وإن مقاتلي حزب العمال الكردستاني، الذين لم يقدروا على التصدي لعناصر الدولة الإسلامية (داعش) في كوباني، وبدأوا يصبّون جامّ غضبهم على تركيا، وكذلك من يستشعرون الألم الذي أورثه إرهاب العمال الكردستاني لسنوات طويلة فبدأوا يتعاطفون مع داعش، لا شك في أن الفريقين، شاءا أم أبيا، سيتعرّضان أو يخضعان للتربية من خلال “السندان الحديدي” للقدر خلال فترة وجيزة.
يجب أن ننسى بسرعة آثار الإرهاب الذي تسبب به حزب العمال الكردستاني، وكذلك مفاوضات السلام التي أنهت هذا الإرهاب، وإن عمليات حرق المدارس في مدن منطقة جنوب شرق الأناضول تشبه مبادرة أحد الأشخاص، وسط حريق يلتهم المدينة الكبيرة، لحرق حظيرة دجاج جاره، ولا تزال منطقتنا في بداية حالة من الفوضى التي ستستمر لفترة طويلة جدًا، وما تنظيم داعش إلا إحدى الإشارات الصغيرة على الدمار الرهيب الذي يلوح في الأفق، ويمكن للأتراك والأكراد أن يحُولوا دون حدوث هذا الدمار من خلال توافقهم، وبالتالي يستطيعون حماية أنفسهم وشعوب المنطقة بأسرها.
لم يتغير المحور الأساسي للمصير منذ ألف عام، وقد أسست العناصر الرئيسة الثلاثة في المنطقة توازناتها، واستطاعت أن تسلُّم مقاليد الحكم على فترات، على مر العصور، من خلال هوياتها وشخصياتها وأفكارها المتغيرة.
في بادئ الأمر، خاض العالم العربي منافسة داخلية فيما بين دوله، ثم أضفي طابعا مؤسسيا على محور الاستقطاب الأساسي الذي تمثَّل في مذاهبَ للسنة وأخرى للشيعة، وكان الأتراك قد وفدوا إلى المنطقة كعبيد في البداية، ثم كجنود مرتزقة، وبذلك ضمّ الأتراك البعد العرقي إلى هذا التفرق والتشرذم المذهبي، ويجب علينا أن لا ننسى أن الأتراك هم القوة الأساسية التي نقلت المذهب الشيعي من العرب إلى الفرس، ولقد تشكلت الإدارة المركزية التي حددت المصير الأساسي للمنطقة وشكَّلت الحالة التي نعيشها اليوم، في تاريخ مبكر للغاية من خلال مهارة الأتراك والأكراد، ومؤسس ومهندس هذه الإدارة هو صلاح الدين الأيوبي الذي كان حقيقةً “أكبر سلطان في الشرق”. وقد استطاع إنهاء الهيمنة الشيعية في العالم الإسلامي بعد أن قضى على الدولة الفاطمية، كما تمكن من استرجاع القدس من أيدي الصليبيين وتدمير المملكة اللاتينية ليؤسس توازنًا في مواجهة الغرب، والفهم الديني الذي يتبناه اليوم الأتراكُ والأكراد معاً هو نتاج هذه الحقبة، وجرى تطويره بالاشتراك فيما بينهما.
كانت الأيديولوجية السلفية، التي يتبناها تنظيم داعش، قد ظهرت مطلع القرن التاسع عشر تمثيلًا للعصبية البدوية العربية في مواجهة الهيمنة العثمانية، ونظرة العثمانيين للوهابيين هي نفسها نظرة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو اليوم، ولهذا، فإن تسامح الدولة التركية مع داعش أمر مستحيل، ولقد أنتجوا آنذاك وحشية بمنطق ساذج، كما هو الوضع الآن، وأراقوا الدماء في كل مكان، وأصبحوا أصحاب دولة برعاية غربية، ولا يمكن للفكر السلفي الجهادي أن يتوافق بأي شكل من الأشكال مع الفهم المشترك للإسلام لدى الأتراك والأكراد، فزيارتنا للأضرحة وتعلُّمنا للأصول والأركان من أهل التصوف يعتبر كافيًا لدى السلفيين الجهاديين لإعلاننا “مشركين”.
ويمكنكم فهم هذا التعارض على أنه تعارض المنافسين السياسيين في الوقت نفسه، ولقد شهد العالم على مدار سنوات نشر الدعاية للمنهج السلفي وأصبحت هذه الدعاية “موضة” بين الطبقات غير الواعية التي لا تمتلك تعليمًا وإمكانيات تمكنها من فهمِ أن الإسلام ليس “دينًا جافًا” بل إنه يمثّل حضارة ثرية على مدار 14 قرنًا. كما حققت هذه الدعاية رواجًا كبيرًا، بفضل وصفاتها السهلة، بين الشباب المضطهد والمذلول والفقير في شتى أنحاء العالم. وتواجد الأتراك والأكراد والشراكسة باعتبارهم فيالق في المنطقة قبل ألف عام لا بد أنه ليس من قبيل الصدفة.
إن الأتراك والأكراد مجبرون على الاعتماد على بعضهم البعض في ظل الظروف الراهنة، كما كان الوقع قبل ألف عام، وسنمحو آثار الماضي القريب، وسنواصل سيرنا في الطريق الذي توقفنا به في الماضي الأبعد، وما دون ذلك يمثل كارثة حقيقية بالنسبة لنا جميعًا، ولهذا السبب فإن ما تعيشه مدينة كوباني حاليًا ليس مشكلة الأكراد وحدهم، بل مشكلتنا جميعًا، ومن ينزح من هناك من لاجئين ليسوا إخوة للأكراد فقط، بل هو إخوة للأتراك أيضًا، أو بالأحرى هم شركاء لهم في المصير ذاته.
صحيفة” زمان” التركية
25/9/2014