بقلم: ممتاز أرتركونه
إذا سألوني “مَن أكثر شخصية ميلاً للتيار اليساري داخل حزب الشعب الجمهوري؟”، عقب الانضمامات الجديدة للحزب، سأقول “محمد بكار أوغلو” دون أدنى تردد.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لا تزال الأصوات التي يحصل عليها حزب العدالة والتنمية، أو بالأحرى زعيمه أردوغان، تأتي من الطبقات المجتمعية التي تشعر بالقلق من العودة إلى الوضع الذي كانت عليه تركيا في الماضي، والمفارقة التي لم يستطع حزب الشعب الجمهوري حلها هي أن الشعبية السطحية لزعيم حزب العدالة والتنمية، تمثل التطلعات المتعددة للمجتمع التركي بشكل أو بآخر، وباختصار، لم يبقى خبز يأكله حزب الشعب الجمهوري بصفة “التغيير” للتيار “اليساري” الوهمي.[/box][/one_third]ولنتذكر التيار اليساري بقيمه الأساسية التي لم تتغير منذ ظهوره على الساحة السياسية إلى اليوم: المساواة، بمعنى مناصرة المظلومين. وإنَّ طَلبَ المساواة يستلزم مناصرة التغيير بطبيعة الحال. كما أن الأيديولوجيات اليسارية، من أكثرها اعتدالًا إلى أشدها غلوا في التطرف، تمثل طلبات التغيير لدى طبقات المجتمع الناقم على الوضع الراهن. ومن الصعب للغاية أن يرضى من ينظرون إلى التيار اليساري على أنه عبارة عن سياسة هويّة، ويستغلونه بصفته مظلة تظلل انتماءاتهم التي يدفنون أنفسهم فيها بهذا الإطار البسيط للتيار اليساري، ومن الصعب أن يعتبروا “الآخر” يساريًا.
أقولها دون تردد: إن محمد بكار أوغلو كان يساريًا حتى عندما كان نائبًا بالبرلمان عن حزب الرفاه إبّان انقلاب 28 فبراير / شباط 1997 ، واليوم أيضًا يواصل حياته السياسية بصفته يساريًا مُتَّسقاً مع مبادئه. وصراعه ضد الموت في السجون ومعارضته الشديدة لريع المخططات العمرانية هما خاصيتان معروفتان عنه، كما أن معارضته لأردوغان، الذي يعرفه عن كثب، ليست نابعة من أسباب شخصية، بل نابعة من القيم اليسارية التي يتبناها ويدافع عنها دون حياد عنها، لدرجة أننا إذا أردنا اختبار يسارية حزب الشعب الجمهوري، بإمكاننا أن نتخذ بكار أوغلو مقياساً في ذلك، وإن انضمامه لحزب الشعب الجمهوري لن يساعد على توجه الحزب نحو اليمين، بل سيصبح عاملاً لتوجّهه نحو التيار اليساري أكثر.
يمكننا أن ننظر بنظرة مختلفة إلى النقاش حول ميل الحزب إلى التيار اليميني، الذي فرض نفسه على مؤتمر الحزب الجمعة الماضي، من خلال نموذج بكار أوغلو بمفرده، إن المصطلحين اليساري واليميني يحملان مضمونًا مبهمًا إذا نظرنا إليهما في إطار “التغيير والمحافظة” فقط، إنهما يشكّلان طريقتهما المنهجية بشكل أساسي وفق الطروحات في المجالات الاجتماعية. ذلك أن مصطلحي اليسار واليمين ما هما إلا من قبيل المصطلحات التي تظهر التوجُّه، ولا تحدّد المضمون بشكل مباشر، ولأن اليسارية تؤيد التغيير، فإن مهمتها أكبر، غير أن اليسار واليمين يحدّدان ويعرّفان بعضمها البعض بشكل متبادل. والمشكلة التي يعاني منها حزب الشعب الجمهوري لا تكمن في “عدم القدرة على أن يكون يساريًا” أو “ميله نحو اليمين”، بل تكمن في عدم امتلاكه منافسًا يمينيًا لا بدّ منه بالنسبة ليساريته، فحزب العدالة والتنمية الحاكم ليس حزبًا “يمينًا” بالدرجة التي تجعل من حزب الشعب الجمهوري “يساريًا”، وبطبيعة الحال لم يجعل تأكيد حزب العدالة والتنمية على “التغيير” الذي يواصله من خلال الأهداف التي تبنّاها منذ البداية والتطلعات التي وضعها نصب عينيه لتحقيقها بحلول عامي 2023 و2071، لم يجعله حزبًا يساريًا، ولقد بادر حزب العدالة والتنمية بسرعة إلى تصفية الهوية الأيديولوجية الناعمة التي شكّلها في البداية ومنحها اسم “الديمقراطية المحافظة”، وذلك بالتوازي مع ارتقاء تقديس أردوغان كزعيم للأمة. فماذا بقي بين يديه؟
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد فمهنا متأخرًا جدًا أن أردوغان إنما طوّر مصطلح “الكيان الموازي” من أجل تنحية حزب الشعب الجمهوري عن الساحة السياسية على وجه الخصوص، وعمد حزب الشعب الجمهوري إلى ترديد مقولة: “لندع حزب العدالة والتنمية وجماعة الخدمة يقضي بعضهما على بعض”، وبذلك فتحوا الطريق أمام نجاة أردوغان.[/box][/one_third]لا تزال الأصوات التي يحصل عليها حزب العدالة والتنمية، أو بالأحرى زعيمه أردوغان، تأتي من الطبقات المجتمعية التي تشعر بالقلق من العودة إلى الوضع الذي كانت عليه تركيا في الماضي، والمفارقة التي لم يستطع حزب الشعب الجمهوري حلها هي أن الشعبية السطحية لزعيم حزب العدالة والتنمية، تمثل التطلعات المتعددة للمجتمع التركي بشكل أو بآخر، وباختصار، لم يبقى خبز يأكله حزب الشعب الجمهوري بصفة “التغيير” للتيار “اليساري” الوهمي.
وثمة فارق وحيد، ألا وهو أن التوتر داخل صفوف حزب الشعب الجمهوري الحاصل بين النخب القديمة والطبقة الوسطى في تركيا، وأما ذلك التوتر داخل حزب العدالة والتنمية فحاصل بين النخب الجديدة البازغ نجمها وبين الجماهير الشعبية العريضة المهملَة، وإن هذا التوتر الحاصل داخل صفوف العدالة والتنمية يتعمّق بين نخب رؤوس الأموال الجديدة، أي بين طبقة المقاولين المقرَّبين من الدولة وبين أصحاب رؤوس الأموال الخارجة عن هذه الزمرة، ويتميز علي باباجان بأنه أحد ممثلي هذه الطبقة الثانية.
إن اليسارية تتحقق بالدفاع عن القيم العالمية، ولقد بادر أردوغان، أمام مسمع ومرأى من حزب الشعب الجمهوري، أي في ميدان السياسة، إلى ممارسة السياسة الاقتصادية للفساد الذي اصطدم بالكشف عنه وفتح ملفاته يومي 17 – 25 ديسمبر / كانون الأول الماضي بينما كان يشكّل النظام التمويلي لأوتوقراطيته الشخصية، وانهار النظام الذي كان قد بناه، إلا أنه نجح في البقاء واقفًا على قدميه، واعتبر متابعة القضاء لملف الفساد انقلابًا ضد حكومته، فسارع إلى استغلال جميع وسائل الدولة التي يمتلكها دون حدود، وقلب كل شيء رأسًا على عقب، واستطاع تهدئة الموجة التي كانت في طريقها إليه.
لقد فمهنا متأخرًا جدًا أن أردوغان إنما طوّر مصطلح “الكيان الموازي” من أجل تنحية حزب الشعب الجمهوري عن الساحة السياسية على وجه الخصوص، وعمد حزب الشعب الجمهوري إلى ترديد مقولة: “لندع حزب العدالة والتنمية وجماعة الخدمة يقضي بعضهما على بعض”، وبذلك فتحوا الطريق أمام نجاة أردوغان، ويجب أن تعطينا التدخلات التي قام بها محمود تانال بمفرده في محكمة تشاغلايان، بحثًا عن العدل، فكرةً عن الإمكانية التي لم يستغلها حزب الشعب الجمهوري، والنتيجة: كيف يتحول حزب الشعب الجمهوري إلى التيار اليميني في الوقت الذي يقف فيه حزب العدالة والتنمية بعيدًا عن اليمينية المشؤومة؟