بقلم: أكرم دومانلي
لم يشترك بلاطيس في الظلم حتى آخر نقطة، ذلك أنه كان روحيًا يساند المظلوم. وكان يريد أن تمر هذه الأيام العاصفة في صمت وسكون.
لكن هذه العملية، التي اكتفى بأن يشاهدها من بعيد أجبرته يومًا ما على أن يتخذ قرارًا حاسمًا، ولقد أراد أصحاب حركة التشويه البشعة التي استهدفت سيدنا عيسى عليه السلام وأصحابه، أن يشركوه في جرائمهم، حيث كان النظام السائد في روما يقتضي ذلك. وكان ينتظَر أن يصادق على قرارات الإعدام بصفته حاكم روما. وكان الظالمون ممن استصدروا أمرًا بالقتل في حق عيسى عليه السلام ينتظرون أن يوقع بلاطيس البنطي على القرار، لكنه كان يعتقد أن عيسى عليه السلام ليس مذنبًا، كما أن زوجت بلاطيس، كلوديا بروكولا، رأت منامًا ونقلت لزوجها تفسيره بقولها: “لا تشترك في هذا الظلم أبدًا!”.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]في الواقع، فإن بلاطيس هو رمز الرجل الذي يقف بين الحق والباطل، وهو رمز للسكوت أمام الظلم الذي يراه، والوقوف إلى جانب القوي بدلًا عن مساندة صاحب الحق، والتعاون مع الظالمين في سبيل المحافظة على المنصب والجاه، وهو يرى أن لديه حججا قوية تعفيه من المسؤولية، لكنه في النهاية اشترك في الظلم، ووقع على قرار مجحف، وكُتب اسمه في التاريخ في صفحة القتلة سفاكي الدماء.[/box][/one_third]لم يكن حاكم روما يرغب في أن يكون شريكًا في هذا الظلم، في البداية ترأس هيئة المحكمة ووجه أسئلة إلى المسيح عليه السلام بقصد إنقاذه، وسأله: “ما هي الحقيقة؟”، فأجابه السيد المسيح بإجابة وجيزة، كما كان يريد تمامًا، فقال بلاطيس “لم أجد هذا الشخص مذنبًا”، لكن للأسف كانت القوى المهيمنة قد علّقت العمل بالقوانين منذ زمن بعيد، وأعلنت عيسى عليه السلام مجرمًا دون صدور قرار من المحكمة، وكان على بلاطيس الاختيار بين إما العزل من منصبه أو الاشتراك في هذه الجريمة، واستطاع أن يجد حجة، وحاول تأخير تنفيذ حكم الإعدام. وكان يريد أن تمر عدة أيام حتى يجروا استفتاءً شعبيًا على حسب تقليد عيد الفصح، ليتم بعد ذلك إنقاذ هذا النبي المظلوم.
ونجح بالفعل في ذلك، إلا أن الشعب للأسف لم يصوت لصالح عيسى عليه السلام، بل صوت لصالح شقي من الأشقياء يدعى باراباس، ألم يكن هذا الإنسان صاحب المجد الرفيع يتمتع بقيمة كتلك التي يتمتع بها هذا الشقي؟ لقد استطاعوا تحريض الشعب ضد عيسى عليه السلام بفضل الدعاية المغرضة ، ولم تكن هذه الفئة الظالمة مدركة حتى حجم الظلم الذي أقدمت عليه، كان الناس يصيحون ويصرخون، حيث كانوا يرغبون في رؤية ابن مريم العذراء مصلوبًا، وكانت ثمة حقيقة واقعية تجاهلها بلاطيس؛ ألا وهي أن جميع الأنبياء الذين جاءوا قبل عيسى عليه السلام كافحوا ضد الأغلبية، وتعرضوا لظلم الحشود الضخمة، ولم يكن هذا يعني أنهم ليسوا على حق!
بادر بلاطيس إلى التخطيط لحملة ثانية من أجل التخلص من حملة القتل، وعرض تخليص السيد المسيح وإطلاق سراحه، حيث كان سينفي من هذه الديار، أما رجال الدين والكهنة المعتبرون فقد قالوا إن إرادة الشعب واضحة للغاية، مؤكدين ضرورة تنفيذ الحكم في أقرب وقت ممكن، غير أن بلاطيس، الذي لم يكن يرغب في خسارة منصبه، لم يستطع تحمل الضغوط التي مورست عليه، واضطر إلى الخضوع لهذا التحالف البعيد كل البعد عن العدل، وما حدث بعد ذلك معلوم للجميع، فقد جُلد هذا النبي الجليل، وضُرب، وبُصق في وجهه، وسُخر منه، وفي النهاية نُفذ فيه حكم الصلب…
تلطخت يدا بلاطيس بدماء نبي من الأنبياء، وكانت هذه الوضعية الحزينة تؤلم ضميره، فطلب من أحد رجاله إبريقًا من الماء وسطلًا، وغسل يديه بعناية، ومن ثم خاطب الحشود التي كانت تشاهده بذهول قائلًا “يداي نظيفتان!”. وهناك من يقولون إن هذه العبارة موجودة في التقاليد اليونانية أو اليهودية القديمة، وإنها تعني عبارة “لقد رُفع الذنب عني” الشهيرة، لكن مصطلح “الأيدي النظيفة” الذي وصل إلينا في يومنا هذا اكتسب معنى رمزيًا من خلال واقعة بلاطيس الذي أصبح مصدر إلهام للعديد من الرسامين الذين رسموا بدورهم الكثير من اللوحات التي تصور والي روما وهو يغسل يديه من دماء عيسى عليه السلام.
وفي الواقع، فإن بلاطيس هو رمز الرجل الذي يقف بين الحق والباطل، وهو رمز للسكوت أمام الظلم الذي يراه، والوقوف إلى جانب القوي بدلًا عن مساندة صاحب الحق، والتعاون مع الظالمين في سبيل المحافظة على المنصب والجاه، وهو يرى أن لديه حججا قوية تعفيه من المسؤولية، لكنه في النهاية اشترك في الظلم، ووقع على قرار مجحف، وكُتب اسمه في التاريخ في صفحة القتلة سفاكي الدماء…
آه يا بلاطيس، كان من المفترض ألا تخاف وألا تختلق الحجج والأعذار…
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] لا يمكن أن تكون الكلمات الرنانة وسيلة لتطهير الضمير وتنقيته في حال وقوع الظلم، فالضمير لا يتطهر في أوقات الظلم بما لم يفعله، بل يتطهر بما فعله على أرض الواقع، فسلاطين بني أمية والخلفاء العباسيين ممن ظلموا كبار علماء المسلمين ماتوا منذ زمن بعيد، غير أن هؤلاء العلماء المظلومين نجحوا في الاختبار الصعب الذي دخلوه في فترات المعاناة، واستطاعوا أن يبنوا لأنفسهم قصورًا من الحب والاحترام في قلوب الناس إلى يوم القيامة.[/box][/one_third]يبحث الظالمون دائمًا عن شركاء لهم في جرائمهم. يريدون ألا يتحملوا عاقبة ظلمهم بمفردهم، فهلا نظرتم إلى الفكرة التي قفزت إلى عقول شياطين الإنس الذين أرادوا أن يقتلوا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة: “لنختر رجلًا من كل قبيلة، وليغرس كل رجل من هؤلاء خنجره في جسد محمد في اللحظة ذاتها حتى يتفرق دمه بين القبائل!” إن نفسية الظالم هي نفسها هذه النفسية: الاشتراك في الجريمة، ومن لا يشتركون في الظلم يغضبون الظالم، فيعتبرهم خونة، ويصفهم بالمرتدين، ويرغب في معاقبتهم في أقرب فرصة ممكنة، ذلك أنه يشعر بالراحة عندما يشاركه الجميع في ظلمه وطغيانه…
يا بلاطيس الواقف بين الحق والباطل!
إياك أن تُدهس تحت الألقاب والمكاسب! وثِق في أن الشيطان هو الذي يضع النقط بعد العبارات التي تبدأ بكلمة “أنا الذي…” ،تعتقد أن جملًا تبدأ بكلمات من قبيل “أنا أستاذ ليس لي مثيل…”، “أنا مثقف لا يقدر بثمن…”، “أنا رجل أعمال محترم…” تعتقدها موضوعية، وتتوهم أنها تنقذك من اختبار صعب، للأسف أنت مخطئ في ذلك! ولا يمكن أن تكون الكلمات الرنانة وسيلة لتطهير الضمير وتنقيته في حال وقوع الظلم، فالضمير لا يتطهر في أوقات الظلم بما لم يفعله، بل يتطهر بما فعله على أرض الواقع، فسلاطين بني أمية والخلفاء العباسيين ممن ظلموا كبار علماء المسلمين ماتوا منذ زمن بعيد، غير أن هؤلاء العلماء المظلومين نجحوا في الاختبار الصعب الذي دخلوه في فترات المعاناة، واستطاعوا أن يبنوا لأنفسهم قصورًا من الحب والاحترام في قلوب الناس إلى يوم القيامة.
آه يا بلاطيس!
أتظن عندما تغسل يديك أنك نظفت بقعة الدم الموجودة في ضميرك، لقد أخطأت في هذا الظن! أنا واثق من أنك غسلت يديك مرات عديدة في منتصف الليالي، كما فعلت” ليدي ماكبث” بالضبط، لكنك لم تنقذ نفسك من هذه الدماء الخفية، وقد ثقبت آهات المظلوم قلبك كل صباح، وكنتَ تصرخ بينك وبين نفسك قائلًا: “لقد قتلت النوم الذي يريح الآلام ويمنح الإنسان الطمأنينة!” لقد غادر عيسى عليه السلام وتركَنا، لكن يديك لم تنظف أبدًا، لأنك لم تستطع أن تحمي شرف الحق والقانون والفكر، ودهستك الحسابات الصغيرة وقضت عليك…