علي بولاج
يمكن النظر إلى الجماعات الإسلامية من وجهتين: الأولى نظرياتهم الإسلامية، وهذا ما يدخل في باب العقيدة والكلام، والثانية سلوكياتهم وتصرفاتهم الاجتماعية والسياسية، وهذا ما يدخل في باب الفقه.
لكن في تركيا تم تحويل الموضوع السياسي الاجتماعي إلى موضوع عقدي، وتم اعتبار الموقف السياسي والأنشطة الاجتماعية لحركة “الخدمة”، بغضّ النظر عن صحتها أو خطئها، بمثابة معايير لمدى صحة عقيدتها، ووصل الأمر إلى إطلاق أوصاف على هذه المجموعة من قبيل “النبي الكاذب، المهدي المزور، الضال، المنافق، المسيحي في الباطن”، وغيرها، وأعلنوا ضرورة القضاء عليها وبادروا إلى اختلاق الذريعة التي تسوِّغ بل تستلزم تحقيق هذه الغاية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]في تركيا تم تحويل الموضوع السياسي الاجتماعي إلى موضوع عقدي، وتم اعتبار الموقف السياسي والأنشطة الاجتماعية لحركة “الخدمة”، بغضّ النظر عن صحتها أو خطئها، بمثابة معايير لمدى صحة عقيدتها، ووصل الأمر إلى إطلاق أوصاف على هذه المجموعة من قبيل “النبي الكاذب، المهدي المزور، الضال، المنافق، المسيحي في الباطن”، وغيرها، وأعلنوا ضرورة القضاء عليها وبادروا إلى اختلاق الذريعة التي تسوِّغ بل تستلزم تحقيق هذه الغاية.[/box][/one_third]وفي مقابل ذلك، أطلقت صفاتٌ من مثل “فرعون، منافق”. ولا شكّ في أن كلا الأمرين خطأ. ولا بدّ أن نتذكر هنا أن غلاة السلفيين والوهابيين والشيعة في منطقة الشرق الأوسط يكفِّر بعضهم بعضاً، انطلاقاً من الناحية العقدية، ويرى كل منهما الوجود الاجتماعي للطرف الآخر شراً محضاً، ومن ثم يعتبر تدميره واجباً دينياً. وقد قتل حديثاً مدمن مخدِّراتٍ وقال القاتل إنه ليس نادمًا على ذلك لأن القتيل كان من أتباع كذا وكذا. وإذا استمرَّ هذا الجنون فإن فئات المجتمع هي كذلك ستتخدر عقولها وضمائرها وستفقد وعيها وستؤول إلى المصير نفسه من الجنون والاقتتال، إذ أن المجتمع الذي يفقد وعيه وعقله وضميره يودي بنفسه إلى حرب أهلية، شاء أم أبى..
إن الموضوع الرئيس الذي يجب علينا التنبيه إليه في هذا المقام هو أن: الاختلاف في الرؤية الإسلامية، والاجتهاد والتفسير ليس سبباً يدعو للتكفير، نعم من الممكن انتقاد الرؤية الدينية التي يتبناها هذا المذهب أو ذاك، أو هذه الجماعة أو تلك، والسعي لإظهار الجوانب الخاطئة لهذه الرؤية التي يتخذها أساساً لاختياراته وتصرفاته الاجتماعية السياسية، ولكن لا يجوز تكفير أهل المذاهب الفقهية الأربعة السنية، والمذهبين السنيين في الاعتقاد (الأشعري والماتريدي)، والاثني عشرية، بما فيه الجعافرة بطبيعة الحال، وأعضاء السلفية الوهابية والإباضية والزيدية والظاهرية، فهؤلاء كلهم من أهل القبلة. أما الغلاة منهم، وبما أن حقوق وحريات أهل الكتاب والصابئة والمجوس مصونة ومحفوظة، ويُترَكون وشأنهم مع بطلان معتقداتهم، فإن حقوق وحريات غلاة المذاهب الواقعة ضمن الدائرة الإسلامية بشكل أو آخر مصونة بدرجة أولى، ولا يمكن التدخل في شؤونهم الداخلية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]المسلون الذين يعيشون هذه المحن في تركيا، حولوا الاختلاف الفقهي فيما بينهم إلى خلاف يدخل في باب العقيدة والكلام، فلو تركوا الاختلاف في المجال الفقهي فقط لأطلقوا مسمَّيات أخرى على التصرفات الخاطئة لبعضهم البعض، لكنهم لم يستطيعوا ذلك، فلم يعرفوا كيفية حلّ خلافٍ نشب بينهم في الإطار الفقهي الذي أراه يشمل جميع التصرفات السياسية والاجتماعية، فقد أضعفوا الإسلام في تركيا، وأسعدوا الأعداء، وأزالوا الموروث المتراكم منذ قرنٍ من الزمان، وحطموا الآمال التي عقدها المسلمون في العالم عليهم، والمشكلة تكمن في العلاقة الخاطئة بين الجماعات والدولة، وبين الدولة والمجتمع.[/box][/one_third]إن الطرح الذي أقترحه هنا ليس تأييدا لما يردِّده العلمانيون التقليديون كلما تحدثوا عن هذا الموضوع قائلين: “انظروا! ألم نقلْ لكم إنه ينبغي فصل الدين عن السياسة”. ومع الأسف، فإن بعض الكتاب الإسلاميين دعوا إلى “إعادة النظر في العلاقة بين الدين والسياسة والعلمانية”، فلما ظهرت حالة الصراع الناجمة عن الفَرق والاختلاف في النظرة الفقهية بين المذاهب والمجموعات الإسلامية أصبح هؤلاء الكتاب يقولون “يا ترى! هل نلجأ إلى العلمانية؟!” لا يا جماعة ليس الأمر كما تظنون! فإن كل نشاط سياسي أو اجتماعي يكون بعيداً عن الإطار الديني، كما أنه من الناحية الدينية غير مشروع، كذلك لا يوصلنا إلى بر الأمان والنجاة أبداً. المسلمون يستلهمون كل قراراتهم من الشريعة المنزلة، فـ”الشرعي” هو ما يطلق على الأمر الموافق للشريعة، فيا أسفا على هؤلاء المسلمين الذين يتحدثون عن ضرورة اللجوء إلى العلمانية حينما عجزوا عن حل هذا النوع أو ذاك من المشاكل الاجتماعية أو السياسية على أساس الأحكام الدينية! الحقيقة إن الذين يعيشون في وسط علماني غير ديني تظهر بينهم صراعات وسفك للدماء، فقد مات ملايين البشر في الحربين العالميتين، وكان القاتل والقتيل علمانيين، وكان القادة فيهما علمانيين أو ملحدين.
لم ينبِّه بعض المشايخ والكتَّاب إلى هذا الأمر في أيام المحنة والمصيبة الأخيرة، ومنهم من أصر على اتهام جماعة “الخدمة” بالضلال، وآأسفاه! فإن ما يجري هو عبارة عن مبادرة الدولة المعروفة (الدولة التركية العميقة) لترميم نفسها والعودة إلى جذورها الأصلية في إطار “مؤامرة دولية مدعومة من الداخل”، وتقود عملية ممنهجة وعلى شكل مراحل ضد كل الجماعات الدينية، وبينما تفعل الدولة ذلك، فإن صحفيين متحيِّزين وأكاديميين تم شراؤهم وبعض الدعاة والقصَّاصين المنظَّمين والجهلة والمحرِّضين والمرضى الذين اتخذوا من تشددهم وتزمتهم ديناً انقادوا وراء هذه الدولة وصبوا معاً الزيت على النار. ولكن الذين كفَّروا إحدى الجماعات بسبب اجتهاداتها الاجتماعية والسياسية وتبنيها منهجاً معيناً عرَّضوا أنفسهم للتهمة ذاتها.
وباختصار، فالمسلون الذين يعيشون هذه المحن في تركيا، حولوا الاختلاف الفقهي فيما بينهم إلى خلاف يدخل في باب العقيدة والكلام، فلو تركوا الاختلاف في المجال الفقهي فقط لأطلقوا مسمَّيات أخرى على التصرفات الخاطئة لبعضهم البعض، لكنهم لم يستطيعوا ذلك، فلم يعرفوا كيفية حلّ خلافٍ نشب بينهم في الإطار الفقهي الذي أراه يشمل جميع التصرفات السياسية والاجتماعية، فقد أضعفوا الإسلام في تركيا، وأسعدوا الأعداء، وأزالوا الموروث المتراكم منذ قرنٍ من الزمان، وحطموا الآمال التي عقدها المسلمون في العالم عليهم، والمشكلة تكمن في العلاقة الخاطئة بين الجماعات والدولة، وبين الدولة والمجتمع.
صحيفة” زمان” التركية