بقلم: علي بولاج
ذكرتُ انتقاداتي لحزب العدالة والتنمية في ثلاث مقالات ماضية، والآن حان الدور على الجماعة، وسأحاول الرد باختصار على الأستاذ عمر لكاسيز والأستاذة سيبل أر أسلان اللذين أخذت الانتقادات التي وجهاها لي على محمل الجد، وينبغي أن أوضح ماهية الإطار الفكري الذي أنظر من خلاله:
1- الأصل في الحياة البشرية هو الحياة الاجتماعية التي ترتكز على الفرد، وعليّ أن أوضح أنني أفهم أن الفرد هو “الإنسان صاحب الشخصية”، وأنني لا أقصد “الشخص الذي يتخذ من الفلسفة الليبرالية أساسًا لحياته”، فالشخصية تنتمي إلى الإسلام، أما الفرد فينتمي إلى التنوير، والإنسان صاحب الشخصية يعبد الله، وأما الفرد فيتحداه.
2- إن مجموع القطرات الصغيرة ينتج عنه المطر الذي هو رحمة من الله، والحياة الاجتماعية ما هي إلا واقعة بشرية، ومن أجل أن تتحول إلى رحمة، يجب أن تتحد الشخصيات الفرادى في حالة “جماعة” وتعيش على هذا المنوال، (يد الله مع الجماعة).
3- إن الجماعات التي تضم الشخصيات والعائلات تشكّل المجتمع، وإذا كان المجتمع يمثل قبّةً، فإن الجماعات تمثل أنصاف وأرباع قبّة.
4- يظهر اتحاد عالمي نسميه “الأمة” من خلال اجتماع المجتمعات المختلفة في المناطق الجغرافية المتباينة، وأنا أستخدم مصطلح الأمة بمفهومين: أ – الأخوة الإسلامية العالمية التي دعانا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فمفهوم الأمة هو تنظيم عالمي في أعلى المراتب الأخلاقية والمعنوية، وهذا انتماء مختلف عن انتماءات العشيرة والقبيلة والقوم والشعب والجماعة ومفهومي “الأمة أو القومية” اللذين يعتبران نتاجًا لتركيبة معاصرة، فالأمة تتفوق على هذه المفاهيم جميعًا.
ب – الاتحاد السياسي الذي يضم في الوقت نفسه غير المسلمين، فنجد كل الجماعات الإسلامية التي لم تختر طريق الصراع أو الاقتتال تعقد اتفاقًا فيما بينها للعيش جنبًا إلى جنب، والسياسة هي فن الإدارة الذي يعتمد على المشاركة بحسب نسبة القيمة التي يوفرها الناس للمجتمع، وهي المجال الذي ينظم علاقة السلطة بهذا الأخير.
5- إن “المجتمع” الذي لا يراعي هذا التنظيم البشري منتسب للحداثة، ومضبوط على أن يكون أمة قومية، وأصبح مرتبطًا بقواعد مراقبة الدولة، يجب على الفكر السياسي الإسلامي أن يصلح المجتمع في إطار المعايير التي عدّدتها في البنود الأربعة الأولى، وبالتالي ينقذه من الشمولية والاستبدادية المتكررة للسلطة المتجبرة.
6- إن المجتمع هو بناء اجتماعي، سواء صلح حاله بالإسلام أم لم يصلَح، وإن العرفان أو الثقافة، والاقتصاد، والسياسة، والسياسات الإقليمية والدولية تتجسد في إطار هذا الكيان الاجتماعي، أي أن المجتمع هو رحم الثقافة والاقتصاد والسياسة، لكن المجتمع ليس هو من يغرس البذور في ذلك الرحم، على عكس ما يدعي الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم، بل يغرسها الاختيارات والأفعال الإرادية لأصحاب الشخصيات بشكل فردي أو جماعي.
وعندما أقول “الجماعة، فأنا لا أقصد جماعة” الخدمة” فقط، بل أقصد طراز “ثلاث جماعات” تضم الخدمة كذلك:
أ – الطرق الصوفية التي تعتبر امتدادًا لتقليد تاريخي.
ب – الجماعات الدينية التي ظهرت في ظل ظروف القرن العشرين وظروف الهجرة إلى المدن.
ج – منظمات المجتمع المدني والتنظيمات الديمقراطية والجمعيات والأوقاف ذات الشخصية العلمانية.
إن الذين ذكرناهم في التصنيف الثالث لا يتخذون التاريخ والدين مرجعية لهم، ويفرقون أنفسهم عن سائر الجماعات الدينية الأخرى بأنهم مستقلون وخارجون عن سيطرة الحكومة ومتطوعون، وانطلاقًا من هذه الحجة يدّعون أنهم لن يعتبروا الطرق الصوفية والجماعات الدينية “منظمات مجتمع مدني”، وهذا موضوع نقاش آخر.
غير أن الخلفيات التاريخية للجماعات والطرق الدينية وتشكيلاتها الدينية تميزها عن هذه المنظمات؛ إذ أنها تجعلها مفضلَة بحسب مكانها، لكن هذه الرؤية تلقي بظلالها على كون الجماعات الدينية تمتلك الوصف الكامل للاستقلالية والتطوعية والعمل خارج سيطرة الدولة.
يراودنا الشك حول مدى عمل الجماعات العلمانية بشكل خارج عن سيطرة الدولة، إن ما يريب في عمل الجماعات الدينية خارج سيطرة الدولة هو مفاهيم “الدولة” وأشكال العلاقة مع السلطة أكثر من الحكومة والسياسة. وتلعب المؤثرات التي انتقلت من تجاربنا التي عشناها في التاريخين القريب والبعيد إلى يومنا، دورًا محوريًا في هذا المفهوم وهذه العلاقة. إن الجماعات الدينية لا تستطيع أن تكون عناصر مدنية حقيقية لأنها لم تستفتهم عن إرثها التاريخي والتأثيرات التي أصابتها بينما كانت تتشكل في القرن الماضي، وهذا بالطبع سارٍ على الجماعات كافة.
صحيفة” زمان” التركية