بقلم: مصطفى أونال
تم اعتقال 31 قائد ورجل أمن من بين 115 أمنياً أشرفوا على تحقيقات قضية الفساد والرشوة الكبرى، فيما أطلق سراح البقية. وكانت هناك أقاويل تدور منذ اليوم الأول في أروقة قصر “تشاغلايان” العدلي تشير إلى اعتزام السلطات حبس نحو 30 مسؤول أمني.
كان بعض المحامين نشروا هذه الادعاءات على حساباتهم الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” كإشاعات وأقاويل. وحقيقة جاءت النتيجة لتؤكد صحة هذه الأقاويل. وهذا دليل مقنع، بما فيه الكفاية، على أن التحقيقات عبارة عن “مؤامرة” مُدبرة، كما يدل على ذلك الإصابة حتى في عدد الأسماء المعتقلين. أما مبررات قرارات الاعتقال فلم تأتِ بموجب متطلبات قانونية أو وفقاً لكمٍّ هائل من المعلومات المثبتة للجريمة في ملفات ومجلدات التحقيق.. بل إنها إرادة حكومة أنقرة..
لم يكن من الصعب التوقع والتنبؤ بأسماء مسؤولي الأمن المطلوب اعتقالهم، لأن الصورة الكبرى واضحة أمامنا وضوح الشمس في رابعة النهار دون غيام أو لبس. والجميع على بينة من الحقيقة حتى الذين يسعون للتستر عليها.
إن الهدف ليس الكشف عن الجريمة ومعاقبة المجرمين. ألم يكن أردوغان هو المدعي العام في قضيتي أرجينيكون وباليوز (المطرقة الثقيلة) أيضاً. لكن مؤامراته الخاصة بهما لم تكن على هذا المستوى المتدني الذي أظهره إزاء قضية قيادات الأمن. فقد أشرف أردوغان على هذه القضايا ووجَّهها، من بدايتها إلى نهايتها، بموجب صراعه على السلطة، حتى إنه تدخل في أدق تفاصيلها.
مع ذلك، فإن جهوده الرامية للدخول في تحالف مؤخراً مع رئيس حزب العمال اليساري “دوغو بارنتشاك”، وعضو منظمة أرجينيكون الانقلابية “دورسون تشيتشاك” و”تشتين دوغان”، الذي وضع مخطط “باليوز” للإطاحة بالحكومة، لا تغير أي شيء من هذه الحقيقة. أما الفرق بين تعامله مع هاتين القضيتين يكمن في أنه لعب على أرواقه جهاراً وحاك مؤامراته وسيناريوهاته بشكل صارخ في العملية الأخيرة التي استهدفت الأمنيين بحيث رآها القاصي والداني.
والدليل الواضح على ذلك تصريحات أردوغان نفسه، إذ تحدث هو نفسه عن خطوات تشكيل البنية التحتية لـ”محاربة حركة الخدمة” خطوة بخطوةٍ، فكشف علنًا عن سبب تشكيل قضاءات الصلح الجزائية بقوله “إن قضاة الصلح الجزائية سيتولون مهمة تصفية الدولة الموازية”.
إن المؤامرات ليست شيئًا سريًا مبهمًا؛ إذ الحزب الحاكم بدأ بسنّ القوانين، وبعده مباشرة قامت الدائرة الأولى للمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين باللازم، بعدما خضعت لسيطرة الحكومة بالكامل، بتعيين أنسب القضاة في إسطنبول لمحاربة وتصفية حركة الخدمة. وهناك ثلاثة أسماء من بين القضاة المعينين معروفون جيدًا لدى الرأي العام. نعم لقد عيّن المجلس قضاة الصلح الجزائية الذين لم يخفوا تأييدهم لأردوغان، وهم من قضوا بإطلاق سراح متهمي قضايا الفساد والرشوة في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن هؤلاء القضاة لم يُخجلوا من وضعوا ثقتهم فيهم، ولم يجعلوا تطلعات وتوقعات أنقرة تذهب هباءً منثورًا. وحدث ما طلبته الإرادة السياسية تماما؛ حيث تم حبس 31 مسؤولا أمنيا، بعد أن شهدنا وصمات عار من الاعتقالات التي جرت في أثناء السحور، وتكبيلِ رجال الأمن من الخلف، وتحذير القاضي إسلام تشيتشاك شخصاً غامضاً قائلاً “اهرب يا إسماعيل”، وتجاوزِ المدة الشرعية للاحتجاز، والتعذيب الممنهج، وغيرها من الانتهاكات القانونية.
إن تمديد مدة الاعتقال الاحتياطي بصورة مخالفة للقانون كانت الطامة الكبرى. وكذلك الأمر بالنسبة لمدة الاستجواب والتحقيق. إذ كان هناك رجال أمن لم يأخذ القاضي إفاداتهم، فأصدر القرار بمجرد الاطلاع على ملفهم، مع أن “حق الدفاع” يعتبر مبدأً أساسيا مقدسًا حتى في الأنظمة القضائية الأكثر بدائية، بل تُفتح الأبواب على مصراعيها ليستخدم المتهم حقه هذا. لكننا رأينا من ينزعجون من دفاع محامي رجال الأمن في قصر “تشاغلايان” العدلي في تركيا 2014، لدرجة أن نقابة محامي إسطنبول المعروفة بموقفها السياسي من القضية عارضت وثارت ضد تلك الانتهاكات القانونية. كما أن مبررات القرار الواردة في لائحة الاتهام كانت بعيدة عن إقناع وطمئنة الضمير العام.
إنه قرار لا يستند إلا إلى إثارة الجنون (البارانويا) لدى الرأي العام حول وجود عمليات التنصت على الجميع، في مقدمتهم كبار مسؤولي الدولة. فليس هناك أدلة أو وثائق معتبرة قانوناً للاتهامات المسندة إلى الأمنيين، كما أنهم لم يتم القبض عليهم متلبسين بارتكاب جريمة. ولا ريب في أن هذا القرار المناوئ للضمير وحقوق الإنسان سيسجله تاريخ القانون.
وربما أرضى هذا القرار الإرادة السياسية، إلا أن قضاءات الصلح الجزائية التي أُسست خصيصًا لتصفية رجال الأمن والقضاء، سقطت وباءت بالفشل في أولى أعمالها. إذ ليس في إمكان أي نظام أن يحمل كل هذا القدر من انعدام القانون والفوضى. وانعكس سوء إدارة التحقيقات مع رجال الأمن على مبررات القرار الصادر الذي لم يرضِ سوى هؤلاء الذين وظفوا أقلامهم في أعمدة الصحف طيلة أشهر لهذه الحملة السوداء.
وحتى إن سعوا لخلق صورة ذهنية لتوجيه الرأي العام كقولهم “تم التصنت على هذا وذاك وعلى تركيا كافة”، فكل مساعيهم محكوم عليها بالفشل. لأن ملف التحقيق، والادعاءات والقرار المبرر واضح للجميع.
لا ريب أن هناك مخطئين خارجين عن إطار القانون داخل الدولة أو في جهاز الشرطة. لذا ينبغي إجراء تحقيقات أكثر جدية وإقناعًا دون الحياد عن القانون والميل إلى المؤامرات.
ويجب عند اتخاذ القرار أن لا نجعل الإرادة السياسية وأهوائنا تسيطر علينا. بالمناسبة، إلى أين آلت المؤامرات والمكائد التي دُبرت ضد “دنيز بايكال” زعيم حزب الشعب الجمهوري الأسبق ونواب حزب الحركة القومية؟ لقد مضت سنوات، ولم تطرأ أية تطورات تُذكر. فما السبب؟ ألم تستحق ادعاءات “كليتشدار أوغلو” زعيم حزب الشعب الجمهوري في هذا الصدد أن تُؤخذ على محمل الجد وفتح التحقيق حولها؟ ولماذا لم تولِ الحكومة أهمية للقرائن والنصائح التي قدمها نواب الحركة القومية؟ لا تقولوا الآن ليس ثمة صلة بين هذه الأحداث واعتقالات “السحور”، إذ ثمة صلة مشتركة بينهما.
يمكن خداع وتضليل الرأي العام بالخزعبلات وألاعيب السحر والشعوذة لمدة ما، إلا أنها لا تدوم طويلا. ولا يمكن الاستناد إلى أرضية بنيت على كتلة أكاذيب، لأنها ستسقط وتنهار ذات يوم