بقلم: علي بولاج
لقد دعاني الكاتب عمر لكاسيز، في خمس مقالات له نُشرت في صحيفة “يني شفق” بتواريخ 13 – 17 – 22 – 25 – 27 يوليو / تموز الماضي، إلى ذكر بعض الإيضاحات حول عدد من المواضيع. وسأحاول أن أقوم بذلك بكل سرور.
ناديتُ قبل ذلك لتجنّب السبّ والقذف والشتم وتوجيه الضربات “من تحت الحزام”، وقلتُ إنني أقدّر كل نقد يوجّهه أي شخص داخل إطار الأخلاق، وأكدتُ أني لن أنشغل بالرد على من لا يراعون هذه المبادئ.
إننا بحاجة إلى الفهم السليم لوتيرة الأحداث التي تعيشها تركيا والمنطقة المحيطة بها، ومن ثم تحليل هذه الوتيرة بطريقة صحيحة ووضع التشخيص المنطقي لها، وفي النهاية البحث عن طرق للخروج من هذه الأزمة. ويا ليت كان لدى بعض الكتاب – على الأقل – المزيد من رباطة الجأش ليتحركوا بخطوات أكثر تأنيًّا ليتناقشوا فيما بينهم بشكل أكثر فعالية، إلا أن قسماً كبيراً من زملائي الذي كنتُ علَّقت آمالي عليهم لم يتصرَّفوا بمثل ما تمنَّيتُ، وإنما حملوا فأساً وانطلقوا نحو ميدان المعركة.
يقول الكاتب عمر لكاسيز، انطلاقًا من نموذج الشاعر الوطني الكبير نجيب فاضل، أن الأشخاص الذين يكونون في خضمِّ غائلة السياسة اليومية ربما يضطرُّون إلى “التراجع عن بعض المبادئ، والتغيُّر بحسب المواقف”، أو ربما يكون هناك تصور على هذا النحو. ثم يضيف “لسنا في وضعية تسمح لنا أن نقول (يا ترى) بعد ما عشناه في الأشهر السبعة الأخيرة، أو نراعي (الأخوّة) بيننا”. ثم يعقّب بقوله “لا يمكننا أن نتهم الكاتب علي بولاج بالتراجع عن بعض المبادئ أو تغيير مواقفه السابقة بسبب الشبهات التي تساوره طالما أنه لم يعترف صراحةً بانتمائه للتنظيم الموازي”. وأوضح من جانبي قائلًا:
كتبت في عمودي في سبتمبر / أيلول 2013 أن تركيا على وشك ولوج مرحلة اضطرابات، وأن هناك “مؤامرة دولية مدعومة من الداخل”. وأنا لا أزال أصرّ على رأيي هذا. ولقد أوردت أفكاري ذات الصلة بهذه الوتيرة مرة ثانية على شكل نقاط في مقالي المنشور بتاريخ 31 يوليو / تموز الماضي. وبالرغم من ذلك، فإنني لا أهمل مبدأ الريبة والحيطة والحذر وقول “هل يا ترى؟!” في جميع المراحل، وأواصل تمحيص واختبار معلوماتي وأحكامي. وأعوذ بالله أن أنتهك حقوق “الأخوّة”. وأوصي الأستاذ لكاسيز هو الآخر بذلك.
وإذا انتقلنا للحديث عن تغيير المواقف السابقة، أريد أن أعترف بأنني لا أستطيع التعرّف إلى العديد من أصدقائي، وأشعر بالحزن على وضعهم البائس. ولا أستطيع أن أستوعب كيف يمكن لما يسمون بالإسلامويين أن يكونوا دولتيين، قوميين، طائفيين، عسكريين، تصادميين، متعصبين لتركيا أو لجماعة من الجماعات لهذه الدرجة. ولا أتصور كيف يمكن أن يخضع سكان هذه الحارة جميعاً لأمر وإرادة المخابرات الوطنية بهذه السهولة. ويثير دهشتي أن تضرب شبكة “أرجينيكون” الانقلابية بجذورها في هذه الحارة.
إن تشبيهي ما نعيشه بما حدث في معركة جاليبولي أثار الانزعاج، وبطبيعة الحال كانت ثمة مبالغة في هذا التشبيه من أجل إكساب العبارة قوة أكبر. لكن لا يمكن لأحد أن يقول إنه ليس هناك علاقة سببية بين الواقعتين. ولستُ ساذجًا لدرجة أن أصدِّق أن هذه الأحداث تتشكَّل من خلال عوامل السياسة الداخلية فقط. وبالتأكيد فإن القوى الدولية لا تترك الإسلام والعالم الإسلامي وشأنه. وأما النقطة التي أريد أن أصل إليها هي:
إن المرحلة التي وصلت إليها تركيا اليوم هي نتاج توظيف زمرة مقنَعة في الداخل في تنفيذ مشروع عالمي. وأنا أؤمن بأنه ليس من الصدفة أن يجري اختيار العقول الذكية والموهوبة في حارتنا (الإسلامية) بعناية كبيرة على مدار 30 عامًا لتخضع لتدريب أكاديمي خاص. وأرى، بصفتي أنتسب إلى المذهب الحنفي، ضرورة أن يحدِّد علمُ الاجتماع السياسةَ الحقيقية.
ولهذا السبب يجب أن يكون المجتمع فوق الدولة والسلطة. وينبغي لمثقفي التيار الإسلامي ومفكريه أن يبقوا داخل الإطار المدني، ويكتفوا بتوجيه الانتقادات الجذرية للسلطة المعاصرة. فهناك مجالات واسعة يمكنهم خلالها كسب حياتهم المعيشية ومواصلة فعالياتهم، مثل الإعلام والجامعات والمدارس والأوقاف والتجارة المحدودة والجمعيات وما إلى ذلك.
لقد بادر الدارسون في المدارس الإسلامية إبان معركة جاليبولي، التي اندلعت في إطار الحرب العالمية الأولى، إلى ترك كتبهم والذهاب إلى جبهة القتال. وسقط منهم الآلاف شهداء، لينفد مخزون الإسلاموية في الأراضي التركية. وكانت الإسلاموية في تركيا تمثل أملًا كبيرًا، ولو كان الإسلاميون الأتراك قد اتحدوا مع إسلاميي مصر وبلاد الشام وإيران والهند ونجحوا جميعًا في ثورتهم الذهنية، لما كنا تعرضنا للذل والهوان كما يحدث الآن في قطاع غزة. إنه تمَّ تنفيذ هذا المشروع العالمي بتوظيف الإسلاموية التركية. ونحن كنا منتظرين ومستعدين لذلك بسبب شهوة السلطة لدينا.
وإذا كانت “الدولة أو الزعيم المقبول لدى الإسلاميين هو ذلك الذي يوفِّر الضمان القانوني لتأدية المسلمين عباداتهم بحرية وراحة تامة، ويقدِّم لهم هذه الخدمة بالفعل” فلنبكِ على حالنا! فأنظمة الحكم الملكية في دول الخليج العربي هي نموذج هذه الوضعية.
إن الإسلاموية التي لا تحاسِب ولا تنتقد السلطة المعاصرة، ولا تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولا تبذل ما بوسعها من جهد وكفاح وجهاد لتغيير اتجاه التيار السائد منذ ثلاثة قرون مضت؛ لا تكون إلا أداة لسلطة زمرة أنانية ورفاهيتها. وإن السلطة الحالية هي سلطة من يقولون “أنا ومن بعدي الطوفان!”، ويصمُّون آذانهم عن سماع صوت المظلومين والمتعرَّضين للإقصاء، ويقولون “يا رب لا تعطِ أحدًا غيري!”.
إن انتقاد هذه السلطة هو مهمة الإسلاميين قبل أن تكون مهمة اليساريين أو اليمينيين أو القوميين أو الليبراليين. وأنا أسعى جاهدًا لأداء مهمتي بهويتي الإسلامية بشكل فردي وليس لصالح حزب أو جماعة ما.