بقلم: عبد الحميد بيليجي
تحمل عملية التغيير التي تشهدها كل من تركيا وإيران، بصفتهما من أكبر دول المنطقة، خصائص مثيرة للدهشة. وفي الوقت الذي كان الجميعُ في منطقة الشرق الأوسط يشير بالبنان إلى تركيا بفضل سياستها الداخلية والخارجية حتى وقت قريب، كان الشعب الإيراني كذلك يتابع هذا التحول الناجح وهو تسيطر عليه مشاعرُ الغبطة.
وبينما كان الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد يقمع الحريات في الداخل على مدار مدة حكمه التي استمرت 8 سنوات، ويعلن عداوته حتى لبعض الشخصيات التي ساهمت في تأسيس النظام، وينتهج سياسة تتبني الصراع مع دول الجوار وسائر بلدان العالم؛ كانت تركيا تشهد اتساعًا في نطاق الحريات، وتتقدم اقتصاديًا، وتذيب الثلوج المتراكمة على علاقاتها مع بلدان الجوار، وتطور علاقاتها مع الشرق والغرب على حد سواء.
وقد ظهرت تركيا في الصفوف الأولى بقوتها الناعمة، وأصبحت قادرة على التفاوض مع جميع الأطراف في المنطقة، وسعت لمصالحة الأطراف المتخاصمة، وكانت تمثل رؤية تفتح الباب أمام كل أنواع التفاعل الرامي لهدم الجدران التي تحول دون تحسين العلاقات بين بلدان المنطقة. وقد استغل العديد من الإيرانيين هذه الفرصة لقضاء العطلة في تركيا ومشاهدة المسلسلات التركية بشغف كبير. وقد قابلتُ بعضًا من المثقفين الإيرانيين الذين أكدوا لي ضرورة اتخاذ تركيا كمثال يحتذى به.
وقد أصبحت إيران في عهد أحمدي نجاد في صراع مع الجميع في الداخل والخارج، وصارت منبوذة من دول العالم كافة، وتضاءل تأثيرها في الشرق الأوسط، وتفوقت عليها تركيا في المنافسة الإقليمية، وأفلس اقتصادها، وأضحى مواطنوها مضطرين للحصول على الوقود من خلال البطاقات التموينية بالرغم من غناءها بموارد الطاقة من نفط وغاز طبيعي وما إلى ذلك.
وبعدما رأى أصحاب العقول في إيران هذه الوتيرة غير المطمئنة، بادروا إلى محو الماضي واختيار رئيس جديد، هو حسن روحاني، العام الماضي لفتح صفحة جديدة. وروحاني هو شخصية موثوق بها من داخل النظام، لكنه يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من بريطانيا. ولقد أعلن روحاني عن رسائل إيجابية وتصالحية منذ أول يوم من وصوله إلى السلطة. وعمد إلى دخول مفاوضات بناءة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية لحل قضية الملف النووي لبلاده.
إن هذه السياسية المطبقَة بشكل واعٍ، والتي كانت تطبقها تركيا حتى 2 – 3 أعوام مضت حتى أصبحت مثالًا يحتذى به، بدأت تؤتي أكلها في غضون فترة قصيرة. كما بدأت العقوبات المفروضة على إيران تخفُّ، والقيود المفروضة على أموال إيران وصناديقها المجمدة منذ سنوات تُلغى. وأصبح العالم ينظر إلى إيران على أنها عامل فاعل صاحب مسؤولية في منطقة الشرق الأوسط.
لقد انعكست المقاربة نفسها على السياسة الداخلية في صورة سياسة اللين والتطبيع. وإذا نظرنا إلى ما قالته شخصيات إيرانية بارزة في سلسلة المقالات التي كتبها الصحفي دوغان أرطغرول في جريدة زمان التركية بشأن رجل الأعمال الإيراني بابك زوجاني الذي يقال إنه مدير رجل الأعمال التركي ذي الأصل الإيراني رضا ضراب الاسم رقم 1 في فضيحة الفساد والرشوة التي كُشف عنها يوم 17 ديسمبر / كانون الأول الماضي، نجد أن هناك مواجهة مع فساد العهد السابق والعلاقات الاقتصادية الظلامية التي كانت تدور في فلك الرئيس نجاد.
وتبحث طهران حاليًا عن مليارات الدولارات التي تبخرت في أيدي الوسطاء إبان فترة لم تكن تستطيع فيها إيران بيع البضائع وشرائها من دول العالم بطريقة طبيعية بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي الذي كان مفروضًا عليها. وقد بادرت الحكومة الإيرانية في سبيل تحقيق هذه الغاية إلى تشكيل ثلاث لجان برلمانية، إلى جانب الإجراءات القضائية الاعتيادية، من أجل التحقيق في ملابسات الألاعيب القذرة التي شهدتها الفترة الماضية.
وفي الوقت الذي تسعى فيه إيران لتطبيع علاقاتها في الداخل وتحسين علاقاتها مع العالم الخارجي، نجد أنه من العجيب أن تتجه تركيا إلى انتهاج سياسات إيران في عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد، سواء على المستويين الداخلي أو الخارجي.
ولقد رسم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نموذجًا جديدًا لسياسة تركيا، من أبرز مميزاته أنه يتجه نحو العزلة إقليميًا ودوليًا بمرور الوقت، ويتحدى الجميع، ومليء بالفساد والرشوة، ويسعى لقمع الأصوات المعارضة بقوة الدولة، وتجمعه علاقات مع التنظيمات الإرهابية الخطيرة، ويتخذ من جيش الحرس الثوري الإيراني مثالًا يحتذي به في إعادة تشكيل جهاز الاستخبارات، حسبما أكدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” لحقوق الإنسان، ويبذل جهودًا من أجل نشر مفهوم دولة الحزب في جميع مؤسسات الدولة، ويولي اهتمامًا للمقاربات الطائفية، ويسعى لتشكيل مجموعة من وسائل الإعلام والمثقفين الموالين من خلال تكتيكات “العصا والجزرة”، ويستهدف حركة الخدمة التي أثبتت كفاءتها في الداخل والخارج، وربما كان أردوغان هو رجل الدولة التركي الوحيد الذي قال خلال زيارته لإيران “أشعر بأني في بيتي الثاني”. ويظهر هذا النموذج كيف أن البعض في تركيا ينظرون بشغف كبير إلى الرداء القديم الذي تحاول إيران أن تلقيه في صندوق القمامة.
في الواقع لا يمكن لأي وطني يغار على بلده في البداية أن يقول إن هذه السياسة، التي يعرف الجميع أنها باءت بالفشل في إيران وأنها تحمل خطر تحويل تركيا إلى صومال أو عراق جديد، هي نتاج فكرة محلية أو قومية. إذن، فالسؤال الذي يجب على كل مخلص لهذا الوطن أن يبحث عن إجابة له هو: من الذي يملي على تركيا ارتداء هذا الثوب القديم من خلال أردوغان؟ ولعل من أهم الإشارات التي تساعدنا على فهم هذه الأحجية هي المحاولات الجادة الرامية للتستر على ملف قضية الفساد التي جرى الكشف عنه أواسط ديسمبر الماضي بعدما ظهرت الأموال الإيرانية المفقودة التي سيطرت على عدد من أبرز أعضاء الحكومة التركية، وكذلك التستر على ملف التحقيق في كيان تنظيم السلام والتوحيد الذي يعتبر من التنظيمات الإيرانية في تركيا، ولو كان ذلك عن طريق اللجوء إلى كافة الطرق غير القانونية. هذا فضلًا عن هوية “الزمرة القليلة” التي لعبت دورًا كبيرًا في انحراف حزب العدالة والتنمية عن مساره وطريقه المشرق القديم.
وأود أن أهنؤكم في هذا المقام، بعيد الفطر المبارك، ولندعُ الله أن تكون الدماء البريئة التي تسيل في بلدان العالم الإسلامي، وكذلك الجريمة القانونية التي تشهدها تركيا حاليًا، سببًا في استيقاظنا من غفلتنا.