بقلم: مصطفى أونال
إن ما تشهده تركيا هذه الأيام ليس عملية قضائية عادية، بل هي عملية لا تختلف أبدًا عما شهدناه أيام الانقلابات العسكرية، فهل من الطبيعي أن تشنَّ قوات الأمن حملة اعتقالات في صفوف رجال الشرطة وقت السحور قبل 6 أيام من عيد الفطر المبارك؟ هذه الواقعة ليس لها مثيل في ماضينا على الإطلاق.
لم يكن هناك أي احتمال للهروب أو التعتيم على الأدلة، وكان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان قد أعطى الإشارة الأولى لبدء العملية، حيث أدلى بتصريح صحفي قبل يومين قال فيه: “والآن ستبدأ عملية قضائية بإشراف قضاة محاكم الصلح والجزاء”، ما يعني أنه ليس النائب العام هو المسؤول عن هذه العملية فحسب، بل الأمر أبعد من ذلك…
قال: “ستبدأ العملية”، وها هي قد بدأت، وضغط جهاز القضاء على الزرّ حتى قبل أن ننسى هذا التصريح الخطير من رئيس الوزراء، ولا شك في أن هذه العملية يجب أن تسجل في تاريخ القضاء العالمي، لغرابتها بطبيعة الحال، فقد عُيّن قضاة الصلح والجزاء خصيصًا للقيام بهذه المهمة، ولم تلعب أية إدارة سياسية في تركيا بالقضاء لهذه الدرجة في أي وقت مضى، فالحكومة مستعدة لفعل كل شيء في سبيل القضاء على مبدأ دولة القانون.
وفي الوقت الذي تحتضر فيه سيادة القانون في تركيا، دخل قانون” طبقة المرفهين” حيز التنفيذ، أي قانون المقتدرين ممن يمتلكون السلطة، وقد بادر المجلس الأعلى للقضاء، بناءً على طلب الحكومة، قبل أيام قليلة إلى تعيين عدد من القضاة “المناسبين” في محاكم الصلح والجزاء، وأكثر جوانب هذه العملية لفتًا للانتباه كان التعيينات التي جرت في إسطنبول، مركز العملية، كما أن القاضي الذي أطلق سراح رجل الأعمال الإيراني رضا ضراب، الذي ألقي القبض عليه متلبسًا في إطار التحقيق في فضيحة الفساد والرشوة في 17 ديسمبر / كانون الأول الماضي، عُيّن قاضيًا في محكمة الصلح والجزاء، ولم يخيّب هذا القاضي الآمال التي كانت معقودة عليه؛ إذ وقّع على قرارات القبض على رجال الشرطة وتفتيش منازلهم.
التعديلات القضائية التي أقرَّتها الحكومة مؤخرًا، والمتمثِّلة في محاكم الصلح والجزاء، تهدف للحرب ضد جماعة الخدمة، ومن سخرية الأقدار أن هذه التعديلات تزامنت مع صدور القوانين الخاصة بعملية السلام مع منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، فحكومة حزب العدالة والتنمية لا تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، بل لا تراه أساساً منظمة أو تنظيماً، أما عبد الله أوجلان فهو رسول السلام.
لقد انتشر نبأ استشهاد جنديين تركيين في مدينة شانلي أورفا على الحدود السورية صباح اليوم نفسه الذي استيقظت فيه تركيا على وقع عملية مداهمة منازل رجال الشرطة، وقالت الأوساط المقربة من الحكومة إن الجنديين استشهدا نتيجة إطلاق نار من قبل بعض المهربين، فيما أعلنت رئاسة أركان الجيش الحقيقة التي مفادها أن الجنديين استشهدا خلال اشتباكات مع عناصر من منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) والاتحاد الديمقراطي (PYD) على الحدود التركية – السورية، لكن العصر الذي نعيشه هو عصر “السلام مع الكردستاني والحرب ضد جماعة الخدمة”، مهما كان الثمن، ولهذا السبب فإنهم سيعمون أبصارهم عن رؤية الحقيقة وسيصمُّون آذانهم عن سماعها.
لقد شهد الجميع مَن الذي يتقن المؤامرات في تركيا، وظهر واضحا للعيان إلى أية درجة تتفنن الحكومة في نصب شراك المؤامرة، ويناقش البرلمان حاليًا حزمة من القوانين المليئة بـ”مواد المؤامرة”، كما رأينا بأم أعيننا أن الذي بدأ مشواره بزعم أنه النائب العام في قضيتي المطرقة وأرجينيكون الانقلابيتين، غيَّر موقفه منهما بعد الكشف عن ممارسات الفساد والرشوة، فبادر إلى ذرّ الرماد في العيون بمناورة تزعم: “نصْب مكيدة للجيش الوطني” عبر هاتين القضيتين.
لا توجد أية هيئة أو مؤسسة لا تخطئ، وربما يوجد بين رجال الشرطة من ارتكب الأخطاء وتورَّط في الجرائم، لكن هذه الحادثة مختلفة، فإذا نظرنا إلى حجم هذه الموجة من الاعتقالات والأسماء التي استهدفتها عملية المداهمة تتضح بجلاء “النية الحقيقية” الكامنة وراءها، كما أن تصريحات النيابة العامة بعيدة كل البعد عن شرح تفاصيل تلك العملية، فالنية ليست صادقة، ومحور هذه القضية هو تحقيقات الفساد والرشوة الأخيرة.
القضية هي تخطِّي رجل أعمال إيراني شاب يدعى “رضا ضراب” أسوار الأمن القومي لتركيا، وتسلُّله إلى صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم من خلال تقديم الرشاوى، الأمر الذي أفضى إلى عزل أربعة وزراء من مناصبهم، وقد كان تعبير “17 ديسمبر” هو اسم فضيحة الفساد الكبرى في الظاهر فقط، لكن كان هناك ما هو أعمق من ذلك بكثير، ولم يكفِهم نفي رجال الشرطة ومسؤولي جهاز القضاء الذين ألقوا القبض على اللصوص إلى هنا وهناك، أو حتى نفيهم إلى أبعد المناطق في تركيا، ذلك لأن المخفي أكثر وأكبر بكثير من الظاهر، وما رأيناه ليس إلا قمة جبل الجليد.
إن حزب العدالة والتنمية أطلق “العملية المضادة”، وصار يطارد الشرطي الذي ألقى القبض على اللص، وتحقق ما لا يمكن توقُّعه في الديمقراطيات العادية، فوُضعت الأغلال في أيدي جميع رجال الشرطة المعتقلين تقريبا ً، والهدف من ذلك هو “رؤيتهم مكبّلين وإظهارهم كذلك”، وهو حلم كل حاكم مقتدر، وقد وصل إلى مراده، لكن من الصعب أن يصل إلى هدفه، وانظروا إلى ذلك الشرطي الواثق من نفسه عندما رفع يديه المكبّلتين إلى السماء وقال متحديًا “لم آكل لقمة حراما، ولم أفعل أي شيء مخالف للقانون”.
هل تسألون عما سيحدث بعد ذلك؟ إذن، اسمعوا الخبر من رئيس الوزراء أردوغان الذي قال: “ربما تمتد العملية إلى مجالات أخرى”، فما ينفَّذ هو ما يمليه قانون المهيمنين، ولقد وصلت الرسالة إلى مكانها، ولا يبالون باقتراب وقفة العيد أو العيد نفسه.
ولن تكون هناك هدية عطلة أقيَم من تلك التي تُقدَّم إلى رجل الأعمال رضا ضراب الذي يطوف بيخته الفاخر بين جزر البحر المتوسط:” نَمْ مرتاح البال الليلة يا رضا!” انظر فقد قيدوا رجال الشرطة الذين ألقوا القبض عليك، ووفوا بالعهود التي قطعوها على أنفسهم من أجلك. ولينم حزب العمال الكردستاني واتحاد المجتمعات الكردية ملء الجفون؛ إذ إن رجال الشرطة الذين ألقوا القبض على المتظاهرين الإرهابيين متلبسين بالجرائم معتقلون الآن.. طابت ليلتك يا رضا…!