بقلم: بولند كوروجو
يواصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تدخلاته التعسفية التي تقلِّب القانون رأسًا على عقب وتضع القانونيين في مواقف محرجة في سبيل التستر على تحقيقات الفساد والرشوة التي تم الكشف عنها في ديسمبر / كانون الأول الماضي.
وفي الوقت الذي تسير فيه التعديلات القانونية المخالفة للدستور والمبادئ القانونية الأساسية بأقصى سرعة، يعاني قطاع القضاء من الآثار السلبية المترتبة على تطبيق هذه الإجراءات والتعديلات، وصار من الصعب إخفاء هذه الحقائق والتغافل عنها، ويقف القضاة والمدعون العامون في مفترق طرق بعدما أُجبروا على إخفاء هذه الحقائق، وإذا طبَّقوا هذه التعديلات فإنهم سيكونون قد ارتكبوا ظلمًا لن يتركهم طيلة حياتهم المهنية والعادية، وإن رفضوا تطبيقها سيُتهمون بانتمائهم إلى “الكيان الموازي” وسيعانون الأمرّين بسبب ذلك.
إن أردوغان يسقط في زلات كبيرة تضرّ كفاحه ضد “الكيان الموازي” الخيالي، وقد أدلى بتصريح لبعض الصحفيين المؤيدين له الذين اختارهم لمرافقته على متن طائرته، حيث قال “والآن ستبدأ العملية القضائية، وسيتحمل قضاة الصلح والجزاء هذه العملية” ، وكان قد قال وهو في طريق عودته من مدينة ليون الفرنسية في وقت سابق “عرضنا بعض التعديلات القانونية التي اقترحناها على رئيس الجمهورية، وعندما يصادق عليها ستتسارع خطواتنا، فنحن نطوِّر مشروعًا وعندما ننتهي منه ستتسارع العملية، وسنرفع عليهم عشرات بل مئات الدعاوى القضائية” ، وبإمكان أي شخص أن يشرح لكم الجريمة القانونية التي تنطوي عليها هذه العبارات المقتضبة لرئيس الوزراء، لكننا سنترك الحديث حول هذه المسألة للمتخصصين.
إن “القاضي الطبيعي” يعتبر واحدًا من بين المبادئ الأساسية للقانون حول العالم، ويقول الحقوقي كمال جوزلار في كتابه “قانون الدستور التركي” ما يلي: “إن مبدأ المحكمة الطبيعية أو العادية يعني أن تكون المحكمة التي ستتولى ملف خلاف ما واضحة المعالم قبل نشوء هذا الخلاف، وباختصار فإن المحكمة الطبيعية (العادية) يعني أنها محكمة أُسست قبل الحدث وليس لها أدنى علاقة، من حيث التأسيس، بالحدث الواقعي، وهو ما يعني عدم إمكانية تأسيس محكمة خاصة بشخص أو واقعة ما”.
ويؤكد جوزلار أن مبدأ القاضي الطبيعي يعتبر ضمانة في حقيقة الأمر، مضيفًا: “أما هذا المبدأ فيوفر ضمانة كبيرة للأشخاص الذين سيُحاكَمون أمام المحاكم، ذلك أن المحاكم التي ستحاكِمهم لم تُؤسَّس لهم خصيصًا، ولم يُعيَّن القضاة الذين سيحاكِمونهم من أجلهم بشكل خاص”. نقطة!!
انتشرت مؤخرًا ادعاءات تشير إلى أن الفترة السابقة على إجراء الانتخابات الرئاسية في تركيا الشهر المقبل ستشهد عملية تغيير التصور أو تشكيل الإدراك لدى المجتمع واعتقال بعض كبار المسؤولين الشرطيين المنوط بهم التحقيق في قضية الفساد والرشوة، وبهذه الطريقة ستزول ادعاءات فضيحة الفساد!
ولقد تغير القانون لأن هذه الإجراءات لن تستطيع أن تقوم بها محاكم طبيعية، وجيئ بنظام قضاة الصلح والجزاء، وسيجري اختيار القضاة حسب هذا المعيار، ولست أنا من يوجِّه هذه الاتهامات الخطيرة للقضاة، فمن يوجِّهها هو أردوغان والصحفيون الداعمون لحزب العدالة والتنمية الذين يتلقون التعليمات منه، وبإمكانكم استصدار قرار من المحكمة الدستورية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بواسطة كل طلب فردي تضيفون إليه تصريحات أردوغان.
غير أنه حتى في عهود الانقلابات العسكرية لم يشهد مبدأ القضاة العاديين إخلالاً بهذا القدر من الوضوح والفظاظة، فهم أيضًا كانوا قانونيين، وأُسست المحاكم بشكل ظاهري، وكان رئيس دائرة الجزاء الأولى بالمحكمة العليا سالم باشول قد سجل اسمه في قائمة التاريخ الأسود حين قال: “إن الإرادة التي جاءت بكم إلى هنا تريد هذا، أي حكم الإعدام” ، وعلينا أن نذكر هذه الواقعة التي شاهدها عوني أوزجورل حول باشول وكتبها، إلى قضاة صلح الجزاء المعينين إسلام تشيتشك، ورجب أويانق، وجودت أوزجان، وفوزي كَلَش، وبكير ألتون، وخلوصي بور:
“تذكرتُ واقعة حدثت في منطقة أولوص بالعاصمة أنقرة، وكان القاضي باشول قد ذهب إلى تلك المنطقة من أجل شراء بعض الحاجيات لبيته عقب سنوات من المحاكمات وأحكام الإعدام التي شارك فيها، ووقف أمام أحد المتاجر لشراء الطماطم، لم يلتفت البائع في البداية لملامح باشول، لكنه نظر إلى وجهه بينما كان يزن له ما اشترى، ولم يكن وجه باشول ليُنسى. وعندما أمعن البائع النظر في وجهه تذكَّره ، وقال له: “لا يوجد طماطم!” وأفرغ محتوى الكيس في صندوق الطماطم. ما أجبر باشول على النظر إلى وجه البائع، ثم الابتعاد عن المتجر دون أن يتفوه بكلمة، انعزل في منزله ولم يظهر مجددًا في الأماكن العامة بعدما كان أحد رجال انقلاب 27 مايو/ أيار 1960 الذين حُملوا على الأعناق…” (صحيفة” راديكال” 28/5/2006)
هناك بُعد إنساني لهذه القضية، ولا ريب في أن من ظُلم سيطالب بحقه يومًا ما أمام القانون وسيحاسِب مَنْ ظلمه؛ إذ إن الدنيا ليست يومًا واحدًا.