بقلم: ممتاز أر تركونه
يعتبر مبدأ “القاضي الطبيعي” من أبرز مبادئ دولة القانون التي لا غنى عنها، ويظهر هذا المبدأ أمامكم عندما تريدون تحويل العقوبات الصادرة عن “المحاكم الخاصة” و”المحاكمة الاستثنائية” المفتوحة للمراقبة والتوجيه، إلى مبدأ قانوني عالمي.
وإذا كان ثمّة جريمة أو ادعاء بارتكاب جريمة، فيجب إقامة الدعوى القضائية أمام محكمة تنعقد في ظروف عادية؛ حيث إنكم إذا أقمتم محكمة جديدة وعيّنتم قاضيًا خصيصًا للنظر في هذه القضية، فإن هذا يعني أنكم انتهكتم القوانين سلفًا، ولقد ارتكبت المحاكم العسكرية ومحاكم الاستقلال ومحاكم انقلابي عامي 1960 و1980 أعمال ظلم كبيرة وكثيرة بسبب عدم اتباعها مبدأ القاضي الطبيعي.
وهل القاضي الطبيعي لا يخطئ؟ بالطبع يمكن أن يخطئ، لكن النظام القانوني يطرح طرقًا من أجل تلافي هذه الأخطاء، أما القاضي غير الطبيعي فهو يستغل لكي يخطئ ويلغي العمل بالقوانين، فضلاً عن أنه لا يمكن تلافي أخطائه.
هناك هدف وحيد مقصود من وراء التعديل الجديد ذي الصلة بمحاكم الصلح والجزاء، ألا هو إيجاد جريمة ومجرم، بالطريقة وفي الإطار الذي حدده رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ولقد دخلت هذه المحاكم في إطار التعديل الجديد الرامي لتقويض بنيان ما يسمى بـ “الكيان الموازي” الذي لا يكفّ أردوغان عن الحديث عنه، وما قاله رئيس الوزراء في إحدى زياراته إلى ولاية” أوردو” التركية لهو خير دليل على هذه النيّة، وجاء في التعميم المرسَل من رئاسة شعبة مكافحة الإرهاب بمديرية الأمن العام أن ركيزة هذه المحاكم الرئيسية هي تشكيل ملفات، أي إيجاد أدلة لإدانة البعض، ولا يتورّع أردوغان في التصريح برغبته في تحقيق هاتين الخطوتين، فمن ناحية يصرّح بأن هذه الأدلة قد جُمعت، ومن ناحية أخرى يقول إن مهمة هذه المحاكم هي “محاكمة عناصر الكيان الموازي”.
أما نحن فلدينا قاضٍ طبيعي واحد. ولا داعي لارتكاب أية جريمة، حيث إن قاضينا الطبيعي سيحدّد الجريمة، وسيعلن الجناة، وسيصدر الحكم. وأما المدعون العامون والقضاة فسيقفون موقف المتفرج. وأعتقد أنه لا داعي لأن أقول إنني أتحدث هنا عن رئيس الوزراء أردوغان، فهو المدعي العام الذي ينظر في قضية الفساد منذ 17 من ديسمبر / كانون الأول الماضي، وهو في الوقت نفسه يصدر الحكم فيها بعدما يرتب الادعاءات، وإذا صدر قرار مخالف الحكم الذي أصدره، يظهر رئيس الوزراء أمام الرأي العام ليعدِّل هذا الخطأ على الفور. وتذكروا ماذا قال للمحكمة التي أصدرت قرارًا مخالفًا لحكم “القاضي الطبيعي” وأخلت سبيل المتهمين في قضية زرع أجهزة التنصّت الأخيرة.
فهل تستفسرون عن ملفات الفساد؟ أنتم مجبرون على تصديق عدم وجود أدلة في ملفات الفساد المقفل عليها بغطاء محكم، وذلك على الرغم من أن الشعب استمع خلال الفترة الماضية للتسجيلات الصوتية وكأنه يشاهد حلقات مسلسل كل يوم، أما “الخونة” و”السفلة” و”المتآمرون” الذين يثيرون هذه “الافتراءات” على الساحة فقد نُفِّذ في حقهم الحكم دون محاكمة.
وهل تسألون عن الكيان الموازي؟ وحتى إن لم يعثر أحد على دليل لإثبات هذه الادعاءات، فبإمكاننا عقد المزيد من جلسات تحضير الأرواح لربما نبرهن على وجود هذه الأدلة الوهمية.
لكن هناك العديد من الأشياء التي لا تسير بشكل طبيعي، فلا أحد ينقاد للأحكام الباتّة التي يصدرها رئيس الوزراء بصفته مدعيا عامًا وقاضيًا في آن واحد، كما أن آلية الدولة العملاقة لا تستطيع إيجاد دليل واحد، حتى مع وجود تهديد العزل والنفي الذي يطال من لا ينقادون للأوامر غير القانونية، فالتصريحات غير المقنعة لرئيس الوزراء التي يعِد فيها جماهيره بقوله “سنعلنها قريبًا” أصبحت كلقطات الأفلام الهابطة، لا تجذب المشاهدين.
تقولون إن رئيس وزراء بقدر أردوغان يجب أن يكون يعرف شيئًا ما، وإذا كنتم قد أخذتم على محمل الجدّ الوعدَ الذي قطعه على نفسه في وثيقة الرؤية بقوله: “إذا أصبحت رئيسًا للجمهورية فسأطوِّر دولة القانون”، فستكونون قد أخطأتم، حيث إن السيد أردوغان منشغل باستهلاك خبرته الكبيرة وجاذبيته والدعم الشعبي الذي يتمتع به وجهد الصعود إلى منصب رئيس الجمهورية، وسط عجز ويأس كبيرين، ولهذا السبب سردنا مثال القاضي الطبيعي في هذا المقام، ونقول لا بد من تلافي الخطأ باتباع مبدأ “وائتوا البيوت من أبوابها”.
إن رئيس الوزراء يسعى للتستر على ملفات الفساد والرشوة عبر السيطرة على جهاز القضاء وتبرئة نفسه وإعلان شهود القضية على أنهم المجرمون، وإذا أردتم الصدق، فإنه فاشل حتى في تحقيق هذا الهدف، وإذا كان هذا منتهى ما يستطيع أن يفعله والعصا في يده، فما بالكم بما يمكن أن يفعله مستقبلًا، وإن أصبح رئيسًا للجمهورية فسيُنتزَع الختمُ من يده، ولن يبقى له حكم، وإذا لم يستطع الوصول إلى هذا المنصب، فإن سلطته وشعبيته ستتضرران كثيرًا، ما يعني أن الخاضعين لسلطته يسعون لكسب الوقت وتسيير الأمور.
ولنفعل نحن أيضًا كذلك، فلنتخلَّ عن الاهتمام والانشغال بـ”أكثر القضاة طبيعية” ولنهتمَّ بأعمالنا الحقيقية.