بقلم: مصطفى أونال
هل أصبح من الصعب قول: ” إنها زلة لسان”، أو أصبح من الصعب قول: ” كلامي تجاوز حدود ما أقصد”، أم أن الاعتذار أصبح صعبًا؟
بالطبع لا يمكن أن يكون قد نطق بهذه الإساءة لرسولنا الكريم عمدًا، فأنا لا يوجد لدي شكٌ في ذلك، فالأشخاص الذين يتكلمون كثيرًا يمكن أن يخطئوا، وأن تصدر عنهم كلمات وأشياء لا يقصدون قولها، ونحن نعتبر ذلك من قبيل زلّات اللسان، فهذا أمرٌ طبيعي، ولا أحد معصوم من الخطأ، وكل ابن آدم خطّاء.
وكنت في انتظار أن يُطلّ علينا مرة أخرى ليقول أن الأمر فُهم خطأ وأنه ما كان يقصد ذلك، وطبعًا عرفتم عمّن أتحدّث.. عن وزير الداخلية التركي أفكان علاء، الذي أساء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في تصريحاته الأخيرة، والغريب في الأمر أن علاء ليس ببعيدٍ عن الدين، فكلنا نعرف أنه نشأ في بيئة محافظة منذ طفولته.
وعندما قرأت تصريحاته أُصبت بالدهشة، ووجدت من يدافعون عنه وعن كلماته البذيئة التي أساء بها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل ويتهمون ويلومون كل من ينتقدونه على هذه التصريحات؛ بحجج وادعاءات وافتراءات، مدّعين أنه لم يقل شيئا خطأ، وأن ما يسمونه “الكيان الموازي” وأعضاءه هم من حرّفوا وأولوا ما قاله بشكلٍ متعمد، وأن المعنى أُخرج عن سياقه الحقيقي، وهو عبارة عن دبلجة، وما إلى ذلك.
استعجبت، ولم أكَدْ أصدّق الأمر حتى استمعت لتصريحاته مرة أخرى، كان حزب العدالة والتنمية الحاكم قد نظم حفل سحور للشباب وحضره وزير الداخلية وخاطب الحاضرين قائلاً: “عندما فتح نبينا مكة ودخلها قد يكون خالجه شعور أنه في يوم من الأيام خرج منها لكنه عاد إليها وفتحها، فبدأ الناس بدخول الإسلام أفواجا أفواجا، من المحتمل أن الرسول نسب لنفسه بعض الفضل في ذلك فأصابه الغرور، انظروا هذه هي الحضارة التي جئنا منها، وهذه هي العقيدة التي نمثلها، من الطبيعي أن يشعر الإنسان بقليل من الفخر والغرور، فهو في النهاية بشر، إلا أن التحذير سرعان ما أتى للرسول: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) ،لهذا السبب، نحن لا ننسب فخر رفعنا الحظر عن الحجاب إلى أنفسنا بل نقول إن الله فعل ذلك، ولا نقول إننا نحن من أدخلنا القرآن الكريم إلى كل مكان بما في ذلك المدارس العسكرية، وإنما نقول إن الله هو من فعل وقد اختبرنا فقط ليرى أعمالنا “.
عرضت كلامه مفصّلاً حتى تتضح الصورة أمام الجميع، ألا توجد مشكلة هنا فيما قاله؟! فماذا يعني قوله “إن الرسول ظنّ أن له نصيبًا في تحقيق الفتح! وأن الرسول انتابه الغرور! فمن قرأ في كتب السيرة النبوية يعرف قدر التواضع الذي كان عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة، فهو شئٌ لا يحتاج لمعرفة عميقة، ولا لأن تكون أستاذًا في الشريعة، أو عالم دين، فكل المسلمين على علمٍ ودرايةٍ بأن الوحي كان مرجعية رسولنا الكريم، ولا يمكن التفكير بعكس ذلك.
وعند النظر إلى الإفادات والتعبيرات التي ادعى فيها علاء أن الرسول انتابه الغرور عند فتح مكة وظن أن له نصيبًا في الفتح، نجد أنها ليست “غير لائقة” فقط، بل إنها تعبيرات تهكمية ومسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً، لم أرَ ولم أسمع في حياتي قطّ مثل هذه التعبيرات والتصريحات المستخدمة في حقّ الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كانت ادعاءاته صحيحة فليثبتها للجميع بالرجوع إلى كتبنا ومصادرنا، بدلاً عن انتقاد الآخرين.
وتأتي الدهشة الكبرى في الجملة التالية لذلك، انظروا إلى هذا القول: “ولهذا فنحن لا ننسب شيئًا لأنفسنا، ولا نقول إننا من ألغى الحظر على الحجاب…” ،لا يمكن لأي إنسان أن يتفوّه بمثل هذا القول؟ من أنت؟ من أنت حتى تتجرأ على قول هذا؟ شئٌ من الأدب! فالأذن تسمع ما يخرج من الفم، كيف لك أن تصف الرسول بأنه انتابه الغرور عند فتح مكة وظنّ أن له فضلا في الفتح، لكن الله سرعان ما أنذره وحذره، ثم تقول بعد ذلك: “ولهذا فنحن لا ننسب شيئًا لأنفسنا، ولا نقول إننا من ألغى الحظر على الحجاب…”! أيصح هذا القول؟! أيصح أن يقارن أحدٌ منّا نفسه برسول الله؟ وما نوع هذه العقلية البادية في هذه العبارات الجافية للنبي صلى الله عليه وسلّم؟!.
وأما أن الحكومة لا تنسب لنفسها شيئاً مما تحقّقه من الإنجازات وأنها ترى أن كل شيء من الله تعالى، فليس بصحيح أيضاً، ولكنه ليس موضوعنا الآن.
إن هذه التصريحات مليئة بالإشكاليات من أية زاوية نظرنا منها إليها، ويجب تصحيحها، أو توضيح المقصود منها، فلا يمكن أن يكون قد قال ذلك متعمدًا، ولا يوجد لدي شك في أنه قالها من دون عمدٍ وعن غير قصد، وأنا لا أطلق هذه التخمينات عبثاً؛ إذ يمكن استنباط ذلك من النظر إلى البيئة المحافظة التي نشأت فيها والبيئة المحيطة به الآن، من الممكن أن يكون قد تجاوزت تصريحاته المعنى الذي أراد، أو تكلم خطأً، أو أن يكون الأمر مجرد زلة لسان.
هذا ليس خطأ صغيراً يمكن التغاضي عنه، بل خطأ كبير، والمطلوب هو التصحيح والتعديل وليس الإيضاح والتفسير والتبرير، فإذا كان هذا الكلام قد قيل على لسان أحد أعضاء أي من الأحزاب الأخرى لكانت الدنيا قد انقلبت رأسًا على عقب، والمثير للدهشة أن مؤسسة الشئون الدينية نفسها لم تُعلق على الأمر.
وطلع علينا بالأمس أحد الصحفيين الموالين للوزير، في محاولة منه لإيضاحِ وتبريرِ الأمر؛ لكنه وقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه وزيره، بل و”زاد الطين بلة” بمحاولة توضيح وتفسير ما قاله الوزير دون أن يأتي بشيء جديد سوى الإطناب والإسهاب، ثم استهدف منتقدي هذه التصريحات وهاجمهم، لا يمكن أن يصل الأمر إلى حد مهاجمة من ينتقدون الوزير على تصريحاته، لا أجد ما أقوله بعد كل ما قيل وما حدث، فإذا لم تستح من العباد، فاتقِ ربّ العباد، واأسفا! ألهذا الحد أعماكم حبّ السلطة وأسدل غمامة سوداء على أعينكم؟
فلو كان نجم الدين أربكان – رحمه الله – على قيد الحياة، لكان طارد صاحب هذه التصريحات ومن ساندها بالعصا، وضيق عليهم الخناق في أنقرة، وأجد نفسي في غنى عن التذكير بالموقف الصارم تجاه هذه التصريحات لحزب السعادة المنحدر من حزب الرفاه الذي تزعّمه المرحوم أربكان.
لكلّ ذلك، أعتقد أنه يجب على أفكان علاء أن يصحح تصريحاته المسيئة للرسول، وأن يقول إن هذا كان مجرد “زلة لسان” ،فحالات الغرور، والتكبر، والزعم بالدور والفضل في وقوع الأحداث وتحقيق الإنجازات قد تعتريك وتعتريني وتعتري الجميع، لكن لا يمكن لها حتى الاقتراب من جناب الرسول الشريف، ففي يومٍ من الأيام، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: “هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”.
صحيفة” زمان” التركية