بقلم: خليل بيلاجن*
يبدو أن العيش تحت سلطة حاكمة مستبدِّة هو قَدَر معظم شعوب الشرق الأوسط، وبالرغم من امتلاك تركيا ماضياً أكثر ديمقراطية بشكل نسبي، فإن الوضعية لم تختلف كثيرًا عما هي عليه في سائر دول المنطقة، فبعد أن نجحت تركيا منذ أعوام قليلة في خفض آثار الوصاية العسكرية المفروضة عليها عقب عدد من الانقلابات، وجد شعبها نوعًا جديدًا من الوصاية في انتظاره، ألا وهو وصاية الإسلام السياسي.
إن الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا تجعلها لا تقل، كمّاً أو كيفاً، عن نظيراتها التي تحدث في دول أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو الشرق الأوسط، وبالرغم من تطبيق بعض متطلبات الثقافة الديمقراطية كالانتخابات الحرّة بنسبة محدَّدة، فإن كل سلطة حاكمة استغلّت الفراغات غير الديمقراطية للنظام للضغط على فئة معينة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لا أعتقد أن وصاية الإسلام السياسي أصبحت قوية ودائمة مثل الوصاية الكمالية التي تستطيع، بفضل خبراتها التي تعود لعشرات السنين، أن تحجز لنفسها مساحة داخل النظام، بغضّ النظر عن كون الحزب الحاكم يمينيًا أو يساريًا، وليس هناك أي ضمان لمنع استنساخ الكيان العميق القديم في حزب العدالة والتنمية، لاشتراكهما معا في مفهوم “الوصاية”، حتى أن تصريحات بعض الشخصيات البارزة في نظام الوصاية القديم، المؤيدة لحزب العدالة والتنمية، لتؤكد صحة هذه الفرضية.[/box][/one_third]وربما كانت القوة الضاغطة للمؤسسة العسكرية على السياسة التركية حتى أعوام قليلة مضت هي الحقيقة الوحيدة في النظام الحاكم التي لم تتغير في فترات حكم اليمين أو اليسار، ويمكننا إطلاق وصف “الوصاية الكمالية” على هذه الوصاية من حيث صفاتها المميّزة، ويُعتبر العلويون والأكراد والمحافظون هم العناصرَ الاجتماعية الرئيسة التي أراد نظام الوصاية الكمالية السيطرة عليها في هذا الإطار حتى سنوات الألفية الثالثة.
ولقد شهدنا أن الأكراد دخلوا في حالة من التحدي مع نظام الدولة القائمة، لا سيما مع مبادرة منظمة حزب العمال الكردستاني إلى حمل السلاح في تسعينيات القرن الماضي، كما يسعون لإيجاد مكان لأنفسهم في المشهد السياسي وداخل دواليب الحكومة من خلال حالة من النضال من أجل البقاء اتخذت أبعادا مختلفة في الوقت الراهن.
وكانت الفئة المحافظة في المجتمع التركي أكدت حضورها في مواجهة النظام القائم قبل ذلك بزعامة نجم الدين أربكان تحت مظلة حركة” الفكر الوطني” أو”الرؤية القومية”، التي قادها، غير أن هذه الفئة حوصرت من جديد من قِبل دائرة الوصاية الكمالية عبر الانقلاب، ما بعد الحداثي، الذي نفذه الجيش بتاريخ 28 فبراير/ شباط 1997.
لقد دخلت الطبقة المحافظة في تحدٍ جديد أمام الوصاية الكمالية للمرة الثانية، بشكل أكثر قوة، تحت قيادة رجب طيب أردوغان، ومظلة حزب العدالة والتنمية، ونجحت حكومات الحزب التي تولّت مقاليد الأمور في البلاد لثلاث دورات برلمانية متتالية أن تبعد المؤسسة العسكرية بشكل جزئي من الساحة السياسية، وبادر الحزب، خصوصًا في فترته الثالثة من الحكم، إلى وضع حجر الأساس لوصاية جديدة يمكن أن نسميها بـ”وصاية الإسلام السياسي”، بصفته الحاكم المطلق لجميع مفاصل الدولة تقريبًا.
وأصبحت سيطرة حزب العدالة والتنمية على مقاليد الحكم في تركيا بمفرده أملًا لهؤلاء “الآخرين” الذين لم يكونوا يستطيعون الاقتراب من مركز الدولة كثيرًا في عهد الوصاية الكمالية. وكانت أول فترتين للحزب في السلطة مليئتان بسلسلة من الإصلاحات التي ضاعفت هذه الآمال المعقودة عليه، غير أن الحزب في فترته الثالثة من توليه السلطة، بصفته الحاكم المطلق لجميع مؤسسات الدولة، أبعده عن أصله كل تحديث أدخله على مبادئه الرئيسية، الأمر الذي جعله أسيرًا لمبادئ الوصاية، وبالتالي سجنه داخل نفسه، والحزب في الوقت الراهن إما أنه لم يدرك حتى الآن العزلة التي يعيشها، أو أنه أدركها لكنه يرى أنها تضمن له البقاء كصاحب الوصاية الجديدة على البلاد.
كانت المؤسسة العسكرية هي القوة الداعمة للوصاية الكمالية، أما وصاية الإسلام السياسي فترى في جهاز المخابرات القوة التي ترغب بها، ولهذا تحمي حصانته بالدروع الواقية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يبدو للأسف أن لعبة الوصاية الخطيرة هذه ستستمر حتى يجري تأسيس نظام ديمقراطي متطور، ولا ريب في أن هذا الأمر يقف كأكبر حاجز أمام تقدم تركيا وتطورها، ويعتبر معظم المدافعين عن الوصاية الكمالية في وضعية” المظلوم” حاليًا، ولا يعرف أحد هل استخلصوا الدروس والعبر من الماضي أم لا.[/box][/one_third]في الديمقراطيات المتطورة يراقب عدد كبير من الوحدات الاستخباراتية بعضها البعض، حتى يسير النظام الديمقراطي في البلاد بطريقة صحيحة، وهذه الآلية تحمل أهمية أكبر في الدول النامية، ذلك أن كل حزب سياسي يمتلك إمكانية تنقيح النظام القائم بحسب حدود أيديولوجيته.
وانطلاقًا من هذه الحقيقة، يمكننا القول بأن تقديم قوة وصلاحيات كبيرة لوحدة استخبارات واحدة في الديمقراطيات الهشّة كالتي في تركيا، يعتبر لعبة خطيرة، ذلك أنكم لا تأمنون خطر أن تضعكم كل خطوة تخطونها في سبيل تقوية وصايتكم “تحت ضرس” وصاية جديدة يومًا ما.
لا أعتقد أن وصاية الإسلام السياسي أصبحت قوية ودائمة مثل الوصاية الكمالية التي تستطيع، بفضل خبراتها التي تعود لعشرات السنين، أن تحجز لنفسها مساحة داخل النظام، بغضّ النظر عن كون الحزب الحاكم يمينيًا أو يساريًا، وليس هناك أي ضمان لمنع استنساخ الكيان العميق القديم في حزب العدالة والتنمية، لاشتراكهما معا في مفهوم “الوصاية”، حتى أن تصريحات بعض الشخصيات البارزة في نظام الوصاية القديم، المؤيدة لحزب العدالة والتنمية، لتؤكد صحة هذه الفرضية.
يبدو للأسف أن لعبة الوصاية الخطيرة هذه ستستمر حتى يجري تأسيس نظام ديمقراطي متطور، ولا ريب في أن هذا الأمر يقف كأكبر حاجز أمام تقدم تركيا وتطورها، ويعتبر معظم المدافعين عن الوصاية الكمالية في وضعية” المظلوم” حاليًا، ولا يعرف أحد هل استخلصوا الدروس والعبر من الماضي أم لا.
أما المدافعين عن الإسلام السياسي، فلم يدركوا حتى الآن هذا الخطر، كما يجب، بسبب ما يمكن أن نسميه “نشوة الانتصار”، ولا شك في أنهم لم يتخلصوا من شعور الانتقام، بكل ما تعنيه الكلمة، الذي حملوه بداخلهم بسبب الظلم الذي تعرضوا له في الماضي، وآمل ألا تكون الدروس التي سيستخلصونها في المستقبل قاسية جدًا بالنسبة لهم.
* طالب دكتوراه بقسم العلوم السياسة في جامعة هيوستن الأمريكية