بقلم: علي بولاج
كان عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيز، الذي عاش في القرن التاسع عشر، يقول إن الجماعات الدينية ستختفي مع الثورة الصناعية ووتيرة التحديث، وأن الطريق سيتجه نحو المجتمع الأحادي أو المتجانس.
واليوم نرى أن المجتمع الذي أسسته الدولة بشكل اصطناعي، عن طريق القانون والإصلاحات الاقتصادية والتعليم، يتمايز مجددًا على شكل جماعات دينية ومنظمات مجتمع مدني، فبينما كان التوجّه لدى الأفراد خلال المائتي عام الأخيرة من الجماعات نحو المجتمع، كنتيجة للسياسات المتعجرفة التي انتهجتها الدول، وهذا بالطبع لم يكن طبيعيًا وكان يحدث بشكل آلي، نرى اليوم ميلاً عن المجتمع نحو الجماعات.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]اليوم نرى أن المجتمع الذي أسسته الدولة بشكل اصطناعي، عن طريق القانون والإصلاحات الاقتصادية والتعليم، يتمايز مجددًا على شكل جماعات دينية ومنظمات مجتمع مدني، فبينما كان التوجّه لدى الأفراد خلال المائتي عام الأخيرة من الجماعات نحو المجتمع، كنتيجة للسياسات المتعجرفة التي انتهجتها الدول، وهذا بالطبع لم يكن طبيعيًا وكان يحدث بشكل آلي، نرى اليوم ميلاً عن المجتمع نحو الجماعات.[/box][/one_third]كما أن التطورات العالمية جعلت من الطبقات الوسطى والجماعات الدينية جهاتٍ فاعلةً حاسمة، وباختصار فإن الديمقراطية إذا كانت ستحتفظ بوجودها، فإن أساسها الاقتصادي سيكون الطبقاتِ الوسطى، وعناصرها الاجتماعية ستكون الجماعاتِ الدينيةِ ومنظماتِ المجتمع المدني (الجماعات العلمانية).
والسؤال الرئيس هو: “ماذا سيكون موقف الدولة الحديثة، التي ظهرت على ساحة التاريخ من أجل إنشاء مجتمع( أمّة) من هذه الوضعية الجديدة؟ هل ستقوم بتصفية الجماعات وتواصل تأسيس الأمةِ الاصطناعية والمجتمعِ، بصيغتِها السياسية؟ أم أنها ستتخلى عن عرقلة إتمام هذه العملية التحوّلية بصورة سلمية بعد انطلاقها، جراء ضغوط الديناميات البشرية الداخلية؟
لقد عمدت الأنظمة الفاشية والشيوعية إلى تصفية الجماعات اعتمادًا على الأيديولوجية المختارة، وأنشأت أنظمة شمولية، فيما نرى الدولة الليبرالية ترفض مفهوم الحقوق الجماعية، استنادًا إلى الفرد، وتفتح الباب بذلك على الشمولية المكررة، لكن لأنها لا تغيّر البنية الفلسفية للدولة لا تستطيع تجريد الدولة من الأحكام القيمية حين تجعل السوق ليبراليًا، وهذا يفضي بدوره إلى صراعات الجماعات والمعتقدات المختلفة من أجل النفوذ في الدولة والسيطرة عليها.
وبإمكاننا القول بأن عنف الدولة في هذا الاتجاه في الغرب خفّ نسبيًا، فيما يزيد ويشتد في تركيا وبلدان الشرق الأوسط بمرور الوقت، أما في الصين فالحزب الشيوعي يدير رأسمالية السوق، وعندما تنتقل رأسمالية السوق من الإنتاج الشمولي إلى مرحلة الاستهلاك الحر، فإن الحزب الشيوعي سيتصدع شاء أم أبى.
وفي الواقع فإننا نواجه مشكلة سياسية وديمقراطية خطيرة جدًا، تتلخص في نقطتين، أولاهما: لم تُضَف التعددية الاجتماعية – الثقافية إلى التعددية السياسية في الديمقراطيات الغربية إلى الآن، وثانيهما: لا يستطيع المجتمع المدني التأثير بشكل كافٍ في آليات القرار ومراحله، وهذا يتطلب بالضرورة إعمال النظر والفكر في مفهوم الدولة مجدّداً وبصورة جادة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]في الواقع إننا نواجه مشكلة سياسية وديمقراطية خطيرة جدًا، تتلخص في نقطتين، أولاهما: لم تُضَف التعددية الاجتماعية – الثقافية إلى التعددية السياسية في الديمقراطيات الغربية إلى الآن، وثانيهما: لا يستطيع المجتمع المدني التأثير بشكل كافٍ في آليات القرار ومراحله، وهذا يتطلب بالضرورة إعمال النظر والفكر في مفهوم الدولة مجدّداً وبصورة جادة.[/box][/one_third]ينذر التوتر الحاصل بين الحكومة التركية وحركة” الخدمة” بنشوب أزمة هيكلية تتجاوز الصراعات اليومية، فالحكومة ترغب في إطلاق عملية إعادة صياغة كاملة للمجتمع عن طريق الدولة الواقعة تحت التأثير العميق لمفهومِ السلطة المبنيِّ على النظرة الحديثة من جهة، ومبدأ “بقاء الدولة إلى الأبد”، والمتشكّلِ بصورة أساسية بين فترة التنظيمات العثمانية وقيام الجمهورية التركية، من جهة أخرى، وتهدف من وراء ذلك إلى إطلاق عملية بناء مجتمع يشكّل بنية تحتية قوية تمكن لقيادة تركيا للمنطقة.
إن هذا المشروع الذي يمكننا أن نطلق عليه “القومية التركية” يتطلب، بواقع طبيعته، نوعاً من إعادة التصميم، وهي ككلّ عملية تصميم هندسية، آلية استبدادية صارمة، وبحسب هذه الفرضية، فإنه لا يمكن أن تتحقق قيادة تركيا للمنطقة (العالم الإسلامي) بمجتمع فضفاض متمتّع بكل الحريات، كما أنه من غير الممكن إنشاء مجتمع سليم وناشط إلا بتنشئة “أجيال متدينة”، ولذلك يجب الانطلاق قبل كل شيء من اختيار أحد المقاربات الدينية الموجّهة وتحويلها إلى رؤية رسمية غير معلنة، ومدارس “الأئمة والخطباء” هي أفضل وسيلة لتحقيق ذلك.
أما المرحلة الثانية من المشروع، فهي إخراج الجماعات الدينية من كونها مدنية والتخطيط لتحويلها إلى مجتمع سياسي رسمي، وبعض الجماعات الدينية والطرق الصوفية راضية عن هذه الوضعية منذ الأمس، ولأن لديها إمكانية نمو محدودة، فإنها تَعتبر المصادر الإضافية التي ترد لها من الدولة نعمةً لا مثيل لها، هذا فضلًا عن أن الوظائف البيروقراطية التي يجري إفراغها حاليًا تُملأ بأعضاء هذه الجماعات والطرق الداعمة لهذه الوتيرة.
لكن يمكن أن يكون هناك جماعات رفضت الاستجابة لهذا المشروع، واختارت اليوم أن تبقى مستقلة كما كانت بالأمس، وهذا هو السبب الحقيقي الكامن وراء رغبة الدولة في احتكار طباعة” رسائل النور”، التي ألفها العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، ومعنى تأميم رسائل النور هو تأميم أكبر حركة دينية في تركيا.
أما حركة” الخدمة” ،فإن العمليات التي تتعرّض لها في إطار هذه العملية واتجاهاتها المحتملة مستقبلاً، ستلعب، بالدرجة الأولى، دورًا في تشكيل علاقة الإسلام مع السياسة والمجتمع، بصفة خاصة، وعلاقة السياسة مع المجتمع، بصفة عامة، خلال المرحلة المقبلة، وسنتناول هذا الموضوع في وقت لاحق إن شاء الله.
جريدة” زمان” التركية