حاوره: قادر أوسال أوغلو – لندن
صرَّح بولند جوكاي، أستاذ الفلسفة والعلاقات الدولية بجامعة كيلي، بأنه من الصحيح أن تركيا تُمثِّل قوةً اقتصاديةً صاعدة، لكنها لا يُمكن أن تتحول إلى قوةٍ دوليةٍ مسؤولةٍ يُنظَر إليها بعين الاحترام دون أن تصل إلى حالة الديموقراطية الكاملة التي تتضمن -في ما تتضمن- حرية التعبير والحقوق الديموقراطية.
وفي لقاءٍ حصريٍّ مع صحيفة “صندايس زمان”، أشار الأستاذ جوكاي مؤسِّس مجلة “جلوبال فولت لاينز”، أن تركيا لن تصبح قوةً عالَميَّةً بحقٍّ إلا حين تُتِمُّ العملَ على بناء نظامٍ ديموقراطيٍّ قويٍّ ومستقرٍ وفعَّالٍ يوازي حالة النُّمُوّ الاقتصادي التي تشهدها البلاد.
وفي معرض تعقيبه على ما ظهر بوضوحٍ في الآونة الأخيرة من ابتعاد حكومة حزب العدالة والتنمية عن السبيل الديموقراطي، الذي تَبَدَّى في اعتمادها عددًا من القوانين المثيرة للجدل، مثل قانون تعديل بنية المجلس الأعلى للقضاة والمدَّعين العموميين، وقانون تنظيم استخدام شبكة الإنترنت، وقانون منح جهاز الاستخبارات الوطنية صلاحياتٍ استثنائية، أوضح قائلاً إن حزب العدالة والتنمية احتلَّ مقعد السُّلْطة على مدى اثني عشر عامًا متوالية، وهو ما أدَّى إلى بزوغ نظامٍ يزداد طابعه الاستبدادي. وأضاف: “لقد بدا ذلك واضحًا للغاية منذ عام 2011، مع لجوء الحكومة إلى قمع الاحتجاجات العامَّة بطريقةٍ تتَّسم بالعنف، وحبس الصحفيين على خلفية اتهامهم بالتآمر مع الإرهابيين، وممارسة الضغوط على مُلاَّك الصحف بهدف إقالة الكُتَّاب الذين يتناولون الحكومة بالنقد”.
وفي ما يلي الحوار كاملاً:
1) لقد تَرَسَّخ التصور الغربي القائل بأن استبدادية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان آخذةٌ في التفاقم، خصوصًا بعد الاحتجاجات التي شهدتها حديقة غيزي في مايو الماضي. وفي أعقاب عملية الفساد التي كُشِفَ عنها النقاب في 17 ديسمبر 2013، أُقِرَّ عدد من القوانين المناهضة للديموقراطية على عُجالةٍ داخل البرلمان، مثل قانون المجلس الأعلى للقضاء، والقانون المنظِّم لاستخدام شبكة الإنترنت، والقانون المتعلِّق بجهاز الاستخبارات الوطنية. فهل تركيا في طريقها إلى التحوُّل إلى دولةٍ مخابراتية؟ وكيف تُقيِّم القانون الجديد لجهاز الاستخبارات؟
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] تركيا لن تصبح قوةً عالَميَّةً بحقٍّ إلا حين تُتِمُّ العملَ على بناء نظامٍ ديموقراطيٍّ قويٍّ ومستقرٍ وفعَّالٍ يوازي حالة النُّمُوّ الاقتصادي التي تشهدها البلاد.[/box][/one_third]في البداية، تتطلَّب الإجابة عن هذا السؤال أن ننظر إلى الأمور على نحوٍ أكثر شمولية وأن نتعرض بشيءٍ من الذكر للسياق التاريخي للأحداث. لقد ارتبط نجاح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وارتبطت الشعبية التي حققها خلال الاثني عشر عامًا المنقضية ارتباطًا مباشرًا بما شهدته تركيا من نموٍّ اقتصاديٍّ كبيرٍ على مدى السنوات العشر الماضية التي تَوَلَّى خلالها حزب أردوغان مقاليد السُّلْطة. ومع هذه الطفرة التي تستحقُّ الإعجاب وُضِعَت تركيا بين أكبر عشرة اقتصاداتٍ ناشئةٍ على مستوى العالَم، جنبًا إلى جنب دول مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا). وخلال هذا العقد الذي لعب فيه أردوغان دور القيادة تضاعف معدل دخل الفرد إلى ثلاثة أضعاف.
ويبدو أن تحقيق هذه النجاحات الاقتصادية قد غذَّى شعور أردوغان بأهميته للنهضة الاقتصادية التي تشهدها البلاد. مع ذلك ينبغي أن يكون واضحًا لدى أي شخصٍ له درايةٌ بالطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالَمي أن إحراز مثل هذا النموّ الاقتصادي لا بد أن يستند إلى فترةٍ طويلةٍ من الإعداد الذي قد يستغرق سنواتٍ، إن لم يكُن عقودًا. وإذا تأمَّلنا التوقُّعات التي قدمتها المؤسسات العالَمية الكبرى، مثل مؤسسة “برايس وتر هاووس كوبرز”، أو إلى التحليلات التي طرحها الخبراء البارزون، مثل بول كينيدي أو نيل فيرغسون، لوجدنا أنها قد أشارت بوضوحٍ -حتى خلال السنوات الأولى من تسعينيات القرن العشرين- إلى أن تركيا ستصبح واحدًا من أكبر عشرة اقتصاداتٍ ناشئةٍ في العقد التالي. وكان الخبراء الذين صدرت عنهم هذه التوقُّعات راعَوا مسائل من قبيل ديناميكيات السكان واحتماليات النُّمُوّ والإمكانيات الجغرافية للدول، وتَبَيَّنُوا أن الاقتصاد العالَمي سيشهد تحوُّلاً كبيرًا يصبُّ في صالح عددٍ من الاقتصادات الناشئة، كاقتصادات مجموعة بريكس وغيرها من الدول التي تندرج تركيا على قائمتها. وحتى في عام 1987، صدر كتاب مرجعي أشار إلى نفس هذه الرؤية الاقتصادية. لذا، فبمعنًى ما يُمكِننا القول إن حكومة رئيس الوزراء أردوغان وجدت نفسها في الزمان والمكان الصحيحَين أكثر مِمَّا خلقت هي ذاتها الظروفَ التي أدَّت إلى حدوث النُّموِّ الاقتصادي.
والآن، بعد اثني عشر عامًا من تَوَلِّي السُّلْطة، كانت النتيجة بزوغ نظامٍ متزايد السُّلْطوِيَّة، متأثرٍ بالْمُعطَى الديني بصورةٍ أكثر وضوحًا، منغمسٍ في سياسات الليبرالية الجديدة إلى درجة الهَوَس، وهو ما بدا واضحًا للغاية منذ عام 2011، مع لجوء الحكومة إلى قمع الاحتجاجات العامَّة بطريقةٍ تتَّسم بالعنف، وحبس الصحفيين على خلفية اتهامهم بالتآمُر مع الإرهابيين، وممارسة الضغوط على مُلاَّك الصحف بهدف إقالة الكُتَّاب الذين يتناولون الحكومة بالنقد. وجميع هذه الأفعال والسياسات تتسم بها الإدارات الحاكمة التي قَضَت ردحًا طويلاً من الزمان في موقع السُّلْطة، بخاصة حين يغلب الضعف وانعدام الكفاءة على صفوف المعارضة. ومن المثير للسخرية أن مِن شأن كل هذه السياسات الاستبدادية والتعاملات الخرقاء مع المعارضين أن تؤول بممارسات حكومة أردوغان إلى نفس نمط الممارسات الكمالية/العلمانية السابقة. وقد أدَّى استغلال رئيس الوزراء الْمُفرِط لأجهزة الدولة، بما في ذلك الاستخدام العشوائي للغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي خلال التظاهرات الأخيرة، إلى اتهامه بإدارة الدولة -في واقع الأمر- وفقًا لنفس النهج المستبدّ الذي سبق أن انتقده -بشدةٍ- من الجنرالات الكماليين/العلمانيين.
ممارساتٌ متجذِّرة في مفهوم السُّلْطة
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] يُمكِننا القول إن حكومة رئيس الوزراء أردوغان وجدت نفسها في الزمان والمكان الصحيحَين أكثر مِمَّا خلقت هي ذاتها الظروفَ التي أدَّت إلى حدوث النُّموِّ الاقتصادي.[/box][/one_third]إن اعتداء الحزب الحاكم على حرية الإعلام، وعدم تحمُّله عمومًا أي انتقادٍ يُوجَّه إليه، وتركه الحبلَ على الغارب لقوات الأمن حتى تمارس أسوأ تجاوُزات العنف، كما شهدنا على نطاقٍ واسع خلال احتجاجات حديقة غيزي، إن جميع هذه الممارسات الاستبدادية الخرقاء إنما هي متجذّرة -أصلاً- في مفهوم السُّلْطة كما فهمَته الجمهورية التركية التي أسَّسَتها النخبة العسكرية الكمالية منذ تسعين عامًا. وخلال السنوات الحرجة التي امتدَّت في الفترة ما بين عامَي 1923 و1925، أي بُعَيد تكوين جمهورية تركيا المستقلة، أقدم كمال أتاتورك والمقربون منه -من خلال تصرفاتهم- على حلّ معضلةٍ جوهريةٍ تتمثل في ضرورة اختيار النظام الجديد بين التوصُّل إلى تسويةٍ مع الشعب التركي، والسيطرة عليه. وقد كانت أي عملية تسويةٍ حقيقيةٍ ستتطلَّب إدخال تعديلاتٍ جدِّيةٍ على آيديولوجية الدولة العسكرية العلمانية. لذا اختارت القيادة أن تستأثر بتقرير ما تحتاج إليه البلاد وأن تُنْفِذ قراراتها بغضِّ النظر عمَّا اعتقدته أغلبية الجماهير في هذا الصدد. وعليه فإن ما شهدته السنوات الثلاث الماضية من ممارساتِ وسياساتِ حزب العدالة والتنمية بالغة الاستبداد يُعطينا دليلاً واضحًا على أن طريقة أردوغان في إدارة السُّلْطة تُمثِّل امتدادًا وطيدًا للحكومات السابقة، لا قطيعةً معها. الخلاصة أنه على مدى تاريخ الجمهورية التركية الممتد لتسعين عامًا، شهدت هذه الفترة -بأكملها تقريبًا- نُخَبًا حاكمةً تُدِير الدولة من خلال سياساتٍ يُحرِّكها القلق والخوف وتبادُل الاتهامات والثأر. وقد أثبت حزب العدالة والتنمية أنه لا يُمثِّل شذوذًا عن هذه القاعدة.
وكما يرى عديد من المراقبين، سواء داخل تركيا أو خارجها، فإن أردوغان (الذي صرَّح ذات مرةٍ بأن “هذه الدولة تشهد تمييزًا بين الأتراك السود والأتراك البيض” وبأن “أخاك “طيب” إنما ينتمي إلى الأتراك السود”) قد دلَّل بالفعل على أنه يُدِير البلاد بالطريقة نفسها التي أدارها بها القادة العلمانيون البِيض.
2) كيف ستؤثِّر الخطوات الحثيثة التي تتخذها الحكومة لتعزيز الاستبدادية (مثل سَنّ التشريعات المتعلقة بمجلس القضاء الأعلى وتنظيم الإنترنت وجهاز الاستخبارات الوطنية) على السياسة الخارجية للبلاد على المديين المتوسط والطويل؟
على الرغم من أن العلاقة بين التنمية الاقتصادية/الاجتماعية، وديموقراطية النظام السياسي، هي إلى حدٍّ كبيرٍ علاقةٌ أكثر تعقيدًا من مجرَّد كونها مسألة تناظُرٍ بسيط، يوجَد ارتباط ضروريّ -رغم هشاشته- بين قوة الاقتصاد وإقامة نظامٍ ديموقراطيٍّ مستقرٍّ على المدى الطويل، بحيث لا يُمكن لأحد الطرفين أن يُعمَّر طويلاً دون وجود الطرف الآخر. وفي الوقت الراهن تُمثِّل تركيا قوةً اقتصاديةً صاعدةً بما تمتلكه من شركاتٍ لها القدرة على المنافسة دوليًّا وعلى تحويل الأُمَّة الشابة إلى محورٍ من محاور الأعمال التجارية، لتطرق -مِن ثَمَّ- أبواب بعض أسواق التصدير الغنية بالنقد، كمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وذلك في الوقت نفسه الذي تجذب فيه مليارات الدولارات -بالمقابل- على هيئة استثمارات. إلا أن قدرة كل هذا النُّمُوّ الاقتصادي على البقاء مرهونةٌ بوجود ديموقراطيةٍ مستقرَّةٍ وفعَّالة، ولن يُمكِن لتركيا أن تتحول إلى قوةٍ دوليةٍ مسؤولةٍ يُنظَر إليها بعين الاحترام دون أن تصل إلى حالة الديموقراطية الكاملة التي تتضمن -في ما تتضمن- حرية التعبير والحقوق الديموقراطية. ولا استثناء لهذه القاعدة، إذ تشير جميع الأدلة المستقاة من تجارِب الدول التي مرت بمثل هذه المرحلة الانتقالية إلى النتيجة نفسها. وخلاصة القول أن تركيا لن تصبح قوةً عالَميَّةً بحقٍّ إلا حين يتم العمل على بناء نظامٍ ديموقراطيٍّ قويٍّ ومستقرٍ وفعَّالٍ يوازي حالة النُّمُوّ الاقتصادي التي تشهدها البلاد.
3) هل تعتقد أن تركيا تبتعد عن قيم الاتحاد الأوربي؟ وهل تبحث لنفسها -مثلاً- عن مساحةٍ جديدةٍ تَنْشَط من خلالها، كخماسي شنجهاي أو أسلوب بوتن في إدارة روسيا، إلخ؟
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الآن، بعد اثني عشر عامًا من تَوَلِّي السُّلْطة، كانت النتيجة بزوغ نظامٍ متزايد السُّلْطوِيَّة، متأثرٍ بالْمُعطَى الديني بصورةٍ أكثر وضوحًا، منغمسٍ في سياسات الليبرالية الجديدة إلى درجة الهَوَس، وهو ما بدا واضحًا للغاية منذ عام 2011، مع لجوء الحكومة إلى قمع الاحتجاجات العامَّة بطريقةٍ تتَّسم بالعنف، وحبس الصحفيين على خلفية اتهامهم بالتآمُر مع الإرهابيين، وممارسة الضغوط على مُلاَّك الصحف بهدف إقالة الكُتَّاب الذين يتناولون الحكومة بالنقد.[/box][/one_third]منذ نشأة حزب العدالة والتنمية وهو يرسم أبعاد موقفه السياسي على أساس طَرْحَين مختلفين، يتمثَّل أولهما في تعبيره عن المطالبة واسعة النطاق بإتاحة المجال للحريات الدينية من خلال تَبَنِّي النموذج الأوربي ومحدِّداته لشكل العلاقة بين الدين والدولة. وبهذه الطريقة أمكن لقيادات حزب العدالة والتنمية جعل مسألة الحرية الدينية في صميم النقاش السياسي الدائر، لا بوصفها قضيةً أساسية، ولكن جنبًا إلى جنب المسائل الأكثر شمولية المتعلقة بالحريات وبحقوق الإنسان، وهو ما سوَّغ موقف الحزب المؤيد للاتحاد الأوربي. أما ثاني الطرحين فيتمثَّل في النقد الجوهري الذي دأب حزب العدالة والتنمية على توجيهه إلى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، إذ ركَّز الحزب منذ البداية على المسؤولية الكبيرة التي تتحملها أحزاب الوسط، وكذلك أحزاب اليمين واليسار، في السقوط بالبلاد في مستنقع البوار الاقتصادي وتعميق الاختلالات الاجتماعية والثقافية.
ولعل مسألة ما إذا كان حزب العدالة والتنمية يتحرك مبتعدًا عن الاتحاد الأوربي أو عما سمَّيتَه “القيم الأوربية” تكون جديرةً بالاهتمام. والظاهر أن القرن الحادي والعشرين سيُعلِن عن نفسه كقرنٍ يصعب توقُّعه أكثر بكثيرٍ مما كنا نتخيَّل، إذ يبدو أن في انتظار القارة الأوربية تحدياتٍ كبرى. وأنا أعتقد أن السيناريو الأقرب إلى الحدوث بالنسبة إلى مستقبل الاتحاد الأوربي على مدى العقد ونصف العقد الْمُقبِلَين هو إحراز تقدُّمٍ بالغ البطء أو عدم إحراز أي تَقَدُّمٍ على الإطلاق. كما أن مستويات النُّمُوّ الاقتصادي تختلف بين بلدان الاتحاد اختلافًا كبيرًا، حتى إن جميع دوله -باستثناء الأساسي منها كألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة- تعاني معاناةً بالغة، وقد ازدادت هذه المعاناة بصورةٍ ملحوظةٍ منذ الأزمة المالية التي شهدها عام 2007/2008. ولننظُرْ إلى اليونان وإسبانيا والبرتغال على سبيل المثال، حيث لا يزال على طوابير البطالة قرابةُ نصف السكان الذين بلغوا سنّ العمل. لذا فإن بين بلدان الاتحاد الأوربي تناقضاتٍ حادةً، بخاصةٍ بين الدول العشر الشيوعية السابقة التي اكتسبت العضوية منذ عام 2004. وفي ما يتعلق بإمكانية تحقيق شيءٍ من النُّمُوِّ الاقتصادي في المستقبل القريب، فإن دول أوربا الشرقية ستتخلف كثيرًا عن بقية الرَّكْب العالَمي، حتى إن هذه المنطقة ستشهد أقلَّ معدلات النُّمُوّ الاقتصادي طوال العقد المقبل، وربما لمدةٍ أطول من ذلك، أو قد لا تشهَد نُمُوًّا على الإطلاق.
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1995 و2005، بدا الاتحاد الأوربي قوةً عالَميةً صاعدةً تَضَاعف حجمها من 12 دولة إلى أكثر من 24 دولة. كما اعتُمد اليورو عملةً موحَّدةً على مستوى القارة. وكانت منطقة أوربا الغربية إحدى المناطق الأكثر ازدهارًا واستقرارًا في جميع أنحاء العالَم. وفي الوقت نفسه وعلى نحوٍ متسارعٍ تَحرَّرت دول وسط وشرق أوربا من ماضيها القمعي من الناحية السياسية والمتخلف من الناحية الاقتصادية. أما الآن في عام 2014، فتبدو التوقُّعات بشأن مستقبل القارة الأوربية أكثر غموضًا ممَّا مضى. ويبدو أنه قد كُتب عليها أن لا تتحول إلى عملاقٍ عالَمي، بل أن تظل قوةً إقليميةً على وجه الحصر. وحتى خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي ولقاءات مجموعة العشرين، تشكو كل القوى الكبرى من التمثيل العددي الزائد للأوربيين. وفي جميع المناسبات الدولية البارزة، أصبح دور الاتحاد الأوربي دورًا ثانويًّا. لذا فليس من المستغرَب أن نرى اهتمام الحكومة التركية بتعضيد علاقاتها مع منظمة شنغهاي للتعاون ومع باقي القوى الناشئة شرقًا وجنوبًا، بدلاً من سعيها باستماتةٍ لاكتساب عضوية هذه “العائلة الأوربية” المضمحلَّة. أما على صعيد ما يُسَمَّى القيم الأوربية “العالَميَّة”، فأعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا وجود لهذه القيم إلا في مخيِّلة مثقَّفي أوربا الغربية المتمركزين حول الذات. ولنطرحْ هذا السؤال: هل تُعتبر قِيَم مثل “حرية التعبير” و”الرأي العامّ” و”التوافق السياسي” و”حقوق الإنسان” و”المجتمع المدني” و”التسوية السلمية للنزاعات”… قِيَمًا أوربيةً، بمعنى أنها نشأت داخل القارة الأوربية، ولا توجد عادةً في مناطق جغرافيةٍ أخرى؟
إن التاريخ يُعلِّمنا أن “القيم الأوربية/الغربية” إنما حرَّكها بالأساس -في مراحلَ سابقةٍ- ضِيقُ الأفق الديني والرُّوحاني، والخرافاتُ، والعنفُ والاستغلالُ في نسختَيه المسيحية وغير المسيحية، وكلُّ ما يعتقد الغرب -في الوقت الراهن- أنه من خصائص المجتمعات المسلمة أو الهندوسية. وكذلك فإن العبودية والعنصرية والفاشية والتمييز العرقي قد جاءت نتاجاتٍ للتجربة التاريخية التي خاضتها هذه القارة. لذا فإن محاولة تعريف “القيم الأوربية” من خلال التركيز على الجانب المضيء وحده -دون اعتبار الجانب المظلم- ليست أكثر من محاولةٍ تعسُّفيةٍ لتنقية التاريخ الأوربي من جوانبه الهدَّامة والقاتمة.
حزب العدالة والتنمية.. وسوريا
4) كيف تُقيِّم السياسة التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية إزاء سوريا؟ وما النقطة التي تعتبرها موضع أكبر خطأ ارتكبه الحزب؟
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]من المثير للسخرية أن مِن شأن كل هذه السياسات الاستبدادية والتعاملات الخرقاء مع المعارضين أن تؤول بممارسات حكومة أردوغان إلى نفس نمط الممارسات الكمالية/العلمانية السابقة. وقد أدَّى استغلال رئيس الوزراء الْمُفرِط لأجهزة الدولة، بما في ذلك الاستخدام العشوائي للغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي خلال التظاهرات الأخيرة، إلى اتهامه بإدارة الدولة -في واقع الأمر- وفقًا لنفس النهج المستبدّ الذي سبق أن انتقده -بشدةٍ- من الجنرالات الكماليين/العلمانيين.[/box][/one_third]خلال السنوات العشر الماضية اكتسبت السياسة الخارجية التركية مزيدًا من إيجابية الأداء والثقة بالنفس، بالتوازي مع ما شهدته البلاد من ازدهارٍ اقتصاديٍّ مُتنامٍ ونفوذٍ متزايدٍ على الصعيد العالَمي. وقبل تصاعُد الأزمة السورية حقَّقت السياسة الخارجية الاستباقية الجديدة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية بعض النجاحات، على الرغم من سياسة “تصفير المشكلات مع الجيران” التي أعلنها وزير الخارجية داوود أوغلو. لكنْ مع تصاعُد الأزمة السورية انحازت حكومة العدالة والتنمية إلى أحد جانبَي الحرب الأهلية الدائرة بين قوات المعارضة ونظام الرئيس بشار الأسد. وفي الشأن المصري، بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين وإعلان رئيس الوزراء مناوأته الصريحة للنظام “العسكري” الجديد، ذهبت المكانة التي تمتعت بها تركيا -باعتبارها مفاوضًا إقليميًّا مستقرًّا وقويًّا- أدراجَ الرياح، حتى إن عديدًا من الأشخاص داخل المنطقة وخارجها، يعتبرون الموقف التركي حاليًا داعمًا للحملة الوهابية التي تُشَنُّ على النظام السوري. ومنذ إعلان سياسة “تصفير المشكلات”، انتهت تركيا إلى العداء مع جميع جيرانها تقريبًا، واندفعت إلى تطبيق سياسة “تصفير الصداقات” مع دول منطقة الشرق الأوسط.
مع ذلك، ففي الآونة الأخيرة، ومنذ نحو ستة أشهر، بدرت بعض البوادر الدالَّة على احتمالية تغيُّر هذه السياسة، فقد اعتبرت الحكومة التركية أن “جبهة النصرة” منظمةٌ إرهابيةٌ تشارك في الحرب الأهلية السورية. وفي نوفمبر من العام الماضي التقى وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو نظيره الإيراني في أنقرة، حيث اتَّفَقَا على عددٍ من النقاط المهمَّة المتعلقة بالأزمة السورية. ثم كان أن تَوَجَّه داوود أوغلو إلى طهران في وقتٍ لاحقٍ للقاء الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني. وقُبيل زيارته إيران اتَّجَه إلى العراق لزيارة المدينتين المقدَّستين الأكثر أهميةً في العالَم الشيعي، النجف وكربلاء، لتكون هذه هي المرةَ الأولى في التاريخ المعاصر التي يزور فيها سياسيٌّ تركيٌّ كبيرٌ هذه المدن المقدَّسة. وعلى أي حال، دعونا نأمل في أن تُستتبَع هذه الخطوات الرمزية بتغييراتٍ ملموسةٍ في السياسة الحالية يكون من شأنها أن تُبنَى على أساس الواقع الفعلي لا على أساس الجعجعة الفارغة فحسب.
حول احتمالية نشوب حربٍ عالَميَّةٍ ثالثة
5) تتفاقم الأزمة الأوكرانية من جهة، ومن جهةٍ ثانية أعلنت إسرائيل تعليقها عملية السلام المُزمَعة مع الجانب الفلسطيني، ومن جهةٍ ثالثة ما زالت تدور رحى الصراع بين اليابان والصين، وجميعنا يعرف بشأن الحروب الأهلية الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك الحرب الأهلية السورية، مما يعني وجود نزاعاتٍ خطيرةٍ في كل ركنٍ من أركان العالَم، فهل ستؤدِّي هذه الصراعات إلى اندلاع حربٍ عالَميَّةٍ ثالثة؟
بادئ ذي بدء أود أن أقول بضع كلماتٍ في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، باعتبارها الصراع الأحدث عهدًا، وإلى حدٍّ ما الأكثر خطورةً، الذي يدور على عتبات تركيا. لقد صَوَّرت وسائل الإعلام الغربية -وكذلك التركية إلى حدٍّ ما- هذا الصدام الأخير على أنه نزاعٌ ساذَجٌ بين القوى الداعمة للديموقراطية، وقوى الاستبداد، إذ يُصرِّح الصحفيون والسياسيون بأن النظام الجديد في كييف، الذي يرتكن إلى شرعية الأمر الواقع، هو نظامٌ غربيٌّ وداعمٌ للديموقراطية، في حين أن المتظاهرين الموالين لروسيا في شرقيّ وجنوبيّ شرق البلاد ليسوا سوى تجسيدٍ للسُّلْطَوِيَّة في شكلها السوفييتي.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]على الرغم من أن العلاقة بين التنمية الاقتصادية/الاجتماعية، وديموقراطية النظام السياسي، هي إلى حدٍّ كبيرٍ علاقةٌ أكثر تعقيدًا من مجرَّد كونها مسألة تناظُرٍ بسيط، يوجَد ارتباط ضروريّ -رغم هشاشته- بين قوة الاقتصاد وإقامة نظامٍ ديموقراطيٍّ مستقرٍّ على المدى الطويل، بحيث لا يُمكن لأحد الطرفين أن يُعمَّر طويلاً دون وجود الطرف الآخر.[/box][/one_third]مع ذلك تتكشَّف قصةٌ مختلفةٌ من وراء هذا العرض الساذج للأزمة، إذ لا يتعلق الصراع -في الواقع- بثنائية الديموقراطية في مقابل السُّلْطوِيَّة، إلا في جزءٍ ضئيلٍ جدًّا منه. وتُمثِّل حكومة كييف غير المنتخبة المدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، الوجهَ المعاصرَ للقومية الأوكرانية المحافظة (أو المتطرفة -إلى حدٍّ ما- في تبنِّيها القيمَ الْمُحافِظة) التي أُحيِيَت تدريجيًّا في الأجزاء الغربية من البلاد منذ إعلان استقلال أوكرانيا في عام 1990. في نفس الوقت ليس الرئيس السابق يانوكوفيتش أكثرَ من نموذجٍ للأوليجاركيين الرأسماليين التافهين الذين بزغ نجمهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والذين يوجد في المنطقة عشراتٌ من أمثالهم ممَّن يتمتعون عادةً بدعم القوى الغربية. وعلاوةً على ذلك فإن قِلَّةً من الأحزاب البارزة التي يُمكن الاختيار من بينها، بما أن جذور أكبر الأحزاب الموالية للحكومة وكذلك أكبر أحزاب المعارضة تنغرس في نفس التربة الأوليجاركية الصفيقة التي تقاسمت ثروات البلاد عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي ديسمبر من العام الماضي أبدى الغرب استعداده لاحتضان يانوكوفيتش وتابعيه الأوليجاركيين التافهين لو أنهم فقط وقَّعوا على اتفاق شراكةٍ مع الاتحاد الأوربي. وبعد شهرين تَغَيَّرَت القصة تمامًا، ومنذ ذلك الحين نشهد -على ما يبدو- معركةً أخرى من معارك الصراع العالَمي بين الديموقراطية والاستبداد، التي يصطف فيها السُّلْطَوِيُّون المتعطشون للدماء على جانبٍ والمتظاهرون السلميون على الجانب المقابل. وفي النهاية فإن يانوكوفيتش لم يرفض اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي إلا لخوفه من عدم قدرته على النجاة سياسيًّا من الآثار الاجتماعية المترتبة على التدابير الاقتصادية القاسية التي طالبت بها أوربا.
أما باقي النزاعات، والجزئية التي تضمَّنها السؤال عن مختلف أماكن الأزمات في أجزاء كثيرةٍ من العالَم، فإنني لا أعتقد بوجود شيءٍ يُمكن اعتباره جديدًا بالكُليِّة في هذا الصدد. فبصرف النظر عن أوكرانيا، يُمكن علاج باقي هذه الصراعات -رغم كارثيتها ومأساويتها لسكان تلك المناطق- من خلال الوسائل الدبلوماسية، أو يُمكن -على الأقلّ- إبقاؤها داخل إطارَيها المحلِّي والإقليمي. أمَّا أوكرانيا فتُمثِّل حالةً مختلفة، لأن هذه هي المرة الأولى التي تصطدم فيها مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وجهًا لوجهٍ مع مصالح القوة الروسية الجديدة موطَّدة الدعائم. وقد دأب كلٌّ من الولايات المتحدة وحلف الشمال الأطلسي على محاولة تطويق روسيا عسكريًّا منذ عام 1991، أي منذ لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي، تمامًا مثلما حاولا تطويق غيرها من الأعداء الطبيعيين كالصين وإيران. وتحت إصرار القيادة الأمريكية اتَّسَع حلف شمال الأطلسي حتى كاد يلامس الحدود الروسية، بالإضافة إلى إنشاء قاعدةٍ عسكريةٍ على أراضي دولة جورجيا، وضمّ اثني عشر حليفًا سوفييتيًّا سابقًا في منطقة وسط أوربا. وهو ما يُعَدُّ إخلالاً مباشرًا بالوعد الذي قطعه جورج بوش -عندما أُعِيدَ توحيد ألمانيا- بعدم توسيع نطاق حلف الشمال الأطلسي. ولعل من العسير أن نصل إلى إجابةٍ للسؤال المطروح عمَّا إذا كان الوضع سيشهَد مزيدًا من التفاقم لدرجة اندلاع حربٍ كبرى، ورغم أن عددًا من كبار الصقور، مثل الكاتب بصحيفة “واشنطن بوست” تشارلز كروثامر ورئيس منظمة “فريدوم هاوس” ديفيد كرامر، يُهِيبُون بإدارة أوباما أن تتخذ موقفًا أكثر تشدُّدًا وأن ترسل قوات البحرية الأمريكية إلى البحر الأسود، فإنني ما زلت أعتقد -آملاً- أن نسبة تحقُّق هذا الاحتمال ضعيفةُ جدًّا. أما في ما يخصُّ تركيا، فإن أفضل الخيارات المتاحة أمامها هو أن تبقى خارج دائرة هذا الصراع المتفجِّر بقدر ما يسمح لها واقع المنطقة.
نبذة موجزة عن بولند جوكاي:
بولند جوكاي هو أستاذ العلاقات الدولية وعميد كلية السياسة والعلاقات الدولية بجامعة كيلي، ورئيس لجنة تحرير مجلة “دراسات البلقان والشرق الأدنى”، ومدير تحرير مجلة “جلوبال فولت لاينز”. التحق بجامعة كيلي عام 1996 من كلية وولفسون-كامبريدج، حيث شغل موقع زميل أبحاث ما بعد الدكتوراه. وقبل انتقاله إلى جامعة كيلي عمل أستاذًا بكلية بيركبيك-لندن، وكذلك بجامعة شمال لندن، وجامعة كامبريدج.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة صاندايس زمان، الإثنين 5 من مايو 2014