بقلم: أحمد دوغرو
في كتاب “الحج: الرحلة المقدسة” يعرض المؤلف مراد كارجالي، البطاقات البريدية لرحلات الحج في المجموعة التي كونها بجهد كبير أمام القارئ، ويصطحبه إلى عشّاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا قبل مائة عام من الآن.
الكتاب يجعلنا نرى ما هو مدون في الذكريات، فالكتاب ينقل لنا الحجيج كما كانوا قبل أكثر من مائة عام مضت من خلال بطاقات بريدية يصعب أن نجدها في مكان آخر، ويوثق كيف كان الناس من مختلف مناطق العالم يتجمعون في النقطة نفسها عبر المصاعب والمشاق.
ويتألف الكتاب من فصول “الحجيج والطريق”، “المحمل الشريف: إسطنبول – دمشق – مصر”، “موانئ الحج: جدة وينبع، “مكة المكرمة”، “المدينة المنورة”، “العودة إلى الوطن”، “سكك حديد الحجاز”. ويقدم مصادر غنية جدًا للباحثين والعلماء في مجاله للمرة الأولى.
“لا نصل إلى جهد بارز مثله دائمًا. فنحن نعرف جيدًا الحالة الكئيبة التي تسيطر علينا جميعًا، وإن المصاعب التي واجهناها في سبيل إنجاز أعمالنا بجهود كبيرة، وليس بالنقل عن هذا وذاك كالنشّال، يقدّرها فقط من عانى مثلنا”.
هكذا يشرح “ابن الأمين محمود إينال” في كتابه: “الشعراء الأتراك في القرن الأخير” الشيخ “شمس الدين أفندي” شيخ التكية المصرية في مدينة “بورصا” ومؤلفاته، أن كتاب “الحج: الرحلة المقدسة – رحلة الحج بالبطاقات البريدية”، الصادر عن دار “قبطان” للنشر، يعد كتابًا أُلف بعد “صراع مع الصعاب والمشقات”.
مؤلف الكتاب هو “مراد كارجالي”، الذي ينحدر من عائلة “كارجالي” التي تمتلك مطعم “قناعت” في منطقة “أوسكودار” على الجانب الآسيوي لمدينة إسطنبول، وقد جمع محتويات الكتاب نتيجة عمل دؤوب استمر لسنوات، ومن بينها مجموعة متميزة من البطاقات البريدية التي حصل عليها حينًا من بائع كتب في إسطنبول، وحينًا آخر من مكتبة في مصر، وأحيانًا من مزاد في لندن، وأحيانًا أخرى من صديق له.
ويعرض الكتاب قسمًا من البطاقات البريدية والصور والوثائق وغيرها من الأشياء الخاصة بالأراضي المقدسة ورحلة الحج، كما أن الكتاب الأنيق، الذي يقع في ـ303 صفحات، يشعر القارئ بأهمية موضوعه من خلال تصميمه الممتع والمنمّق.
ربما نذهب ولا نعود، وربما نعود ولا نلتقي
إن حجّ بيت الله حق لله تعالى على عباده القادرين، ويمتلك الحجّ مفهومًا مختلفًا آخر بالنسبة لأمثالنا ممن يعيشون في بلاد بعيدة، فبفضل هذه الرحلة المباركة نستطيع تبجيل روضة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه من أمام ضريحه، ورؤية الأراضي التي سار عليها والديار التي سكنها، لكن كيف؟
لا ريب أنه في الماضي، عندما كانت الإمكانيات غير متوفرة مثل اليوم، لم يكن من نصيب جميع المسلمين الوصول إلى موطنه صلى الله عليه وسلم لأداء فريضة الحج بعد عبور الجبال الثلجية والأنهار المتجمدة والبحار الشاسعة والصحاري المقفرة.
فتجد الحجاج يودعون ذويهم قبل الخروج في هذه الرحلة ويسامح كل واحد منهم الآخر ويقولون “ربما نذهب ولا نعود، وربما نعود ولا نلتقي”، ثم يجتمعون في المدن الكبرى مثل دمشق والقاهرة، ويتقدم عشرات الآلاف منهم جماعة واحدة برفقة قافلة الصرّة التي كانت ترسل إلى أراضي الحجاز.
وكانت الوحدات العسكرية التي تسير أمام القافلة وخلفها وبجوارها توفر الأمن لوفود الحجيج، وبالرغم من ذلك كان من الصعب على الحجيج أن يحفظوا أرواحهم وأموالهم من هجمات البدو..” أمامك الحرم، وخلفك الحرامي… لا يمكن الذهاب دون دليل فالطرق قاسية.. رحلت القافلة فبقينا عند الجبال”.
يروي المؤرخ العثماني “أولياء جلبي” أن الحجيج تعرضوا لهجوم الأعراب بينما كانوا على جبل عرفات، وأنهم تركوا الوقوف بعرفات وبادروا للدخول في معركة الدفاع عن أنفسهم، مشيرًا إلى أنهم وضعوا شهداءهم والرؤوس التي أخذوها إلى جوارهم، ومن ثم تابعوا أداء عباداتهم.
ولم يكن بمقدور الجميع أن يدبر الاحتياجات المادية لهذه الرحلة، وكما قال يونس “أمير الحج رئيس القافلة، ليكن عمره طويلًا، لا يذهب شخص بلا مال، يا لجمال شعاب مكة، وطريق الكعبة بعيد”، ولا داعي لسرد بقية المشاق والصعاب الأخرى، فحينًا لا يسمح المناخ بإتمام الرحلة، وأحيانًا أخرى لا يسمح قطاع الطريق للقافلة بالعبور، ويجتمع علماء ذلك البلد، وينصحون الحجيج الذين خرجوا من ديارهم منذ أشهر بقولهم: “لا يوجد أمن في الطريق، فالحج ليس فرضًا هذا العام”.
وكانت الصرّة التي ستذهب إلى الحرمين الشريفين تُلفّ على أنها “واجب الدولة”، وتُرسل برفقة الجنود، ليسلك الأهالي طريق البيت وأعينهم دامعة وقلوبهم مكتوية.
من الشُّقْدُف إلى مقعد الطائرة
إن طريق الحج اليوم عبارة عن مسافة سويعات على متن الطائرة، كما أن إمكانيات الضيافة ممتازة، وبالرغم من ذلك، فلم يتغير حُب هذه الديار وعشقها وبركاتها، وإن تغير الناس والأزمان، وبقي من الذكريات رحلات الحج تلك التي كان يخرج إليها الناس في الشقادف التي توضع على أظهر الجمال، كما هو الحال بالنسبة للنسيج التاريخي للحرمين.