بقلم: علي بولاج
هي عادة متوارثة من عهد “التنظيمات” إبان الدولة العثمانية، من يسيطر على الدولة يسيطر كذلك على المجتمع، ويسخّر نِعم السلطة لمن يتبنّون أيديولوجيته، ويخدمون مصالحه الطبقية وقاعدته الاجتماعية أو الدينية – المذهبية التي ينحدر منها، ولأن هذا ينطوي على عقلية شمولية، فإن المشروعات الشمولية أيضًا لا تتحقق إلا بالسياسات الاستبدادية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن اعتماد السياسات الاستبدادية على مشاريع شمولية هي مسألة معمول بها في كل مكان، فتجد حزبا أو زمرة من الأشخاص يسيطرون على السلطة بانقلاب أو ثورة أو حتى اعتمادًا على الأغلبية الديمقراطية، ولا يختلف الأمر، إذا اتجه هذا الحزب أو هذه الزمرة إلى يمين الوسط أو يسار الوسط، أو اعتمد شكلا من أشكال السياسة القومية أو اليسارية أو الاجتماعية أو الليبرالية أو المحافظة المتدينة.[/box][/one_third]لم يكن التاريخ الإسلامي العام، والتجربة السياسة العثمانية شمولية، فالأصل كان سلطة الأسرة الحاكمة، لكن المجتمع كان يتمتّع بمطلق الحرية، وكان ما ينتظره المجتمع من السلطة الحاكمة هو الحكم بالعدل وتوفير الأمن، وكانت الدولة مركزية من الناحية الإدارية، لكنها كانت تتبنّى مبدأ “اللامركزية” من الناحية الاجتماعية – الثقافية.
ومع ظهور موجة التغريب دخلت مهمة السيطرة على المجتمع ضمن الوظائف الأساسية للدولة، ولم يكن هذا ممكناً إلا بعد إلغاءِ الشريعة التي كانت تحمي الحياة المدنية في مواجهة السلطة السياسية وسيطرةِ عقلية شمولية على الدولة.
لقد مارست الدولة عملية إعادة ترتيب المجتمع في عصور التنظيمات والمشروطية والجمهورية في تركيا، بهدف تطويع الجماعات والطرق الدينية والكيانات المدنية، التي تعتبر العناصر الأساسية للحياة الاجتماعية، لكي تتوافق مع أيديولوجيتها التي تتبناها.
كانت الدولة العثمانية تقوم على 3 دعائم أساسية، هي الجيش والبيروقراطية المدنية والعلماء، وعندما بدأت وتيرة تصفية العلماء تتصاعد، اعتبارًا من عهد السلطان “محمود الثاني”، تعرضت الجماعاتُ الدينية والمجموعات الاجتماعية المصانة من قبل العلماء لعمليات من قبل الدولة، وكانت الطريقة البكتاشية هي المسيطرةَ بين صفوف الإنكشارية، فيما أراد السلطان “محمود الثاني” الاعتماد على الطريقة النقشبندية.
وفقدت النقشبندية شخصيتها المدنية، للمرة الأولى في التاريخ، الأمر الذي أفضى إلى نتيجة كارثية كخضوعها لأمر الدولة دون التدخّل أو الاعتراض على أي من المواضيع الخطيرة، وقد تخلت طرق كثيرة عن شخصياتها المدنية، وبدأت تأكل من ثمار الدولة الحرام، ووصل الأمر إلى حد أن بدأت الطرق الدينية تلعب أدوارًا فاسدة لدعم الدولة في عهد السلطان “عبد الحميد الثاني”، وعارض الإسلاميون الدور الذي تلعبه الطرق والجماعات الدينية كدعائم للدولة، وانتقدوا السلطان.
وأما “مصطفى كمال أتاتورك” فقد اقتلع جذور البكتاشية والنقشبندية، وسلّم الدولة إلى عهدة “الجماعات العلمانية”، وبعد مرور وقت طويل بدأت الجماعات النقشبندية والنورية تظهر في القطاع العام في عهد الرئيس الراحل “تورجوت أوزال”، الذي اعتمد نموذج السلطان “عبد الحميد الثاني”، وليس نموذج السلطان “محمود الثاني” و”مصطفى كمال أتاتورك”.
وترجع فكرة محاولة إيجاد الجماعات الدينية مكان لها في القطاع العام إلى ما قبل “تورجوت أوزال” بكثير؛إذ يمكن أن نجِد جذور هذه الفكرة في الفلسفة التي اعتمدت عليها “فرقة الاتحاد المحمدي”، والتي استدعت تأسيسها.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]في الوقت الذي تكون فيه الدولة هي التفاحة الحمراء لدى الجميع، فإن البعض يظهرون أداءً عاليًا، ويتفوقون على الآخرين بمساعيهم وطاقاتهم، وعند هذه النقطة، تحديدا، تبادر الدولة إلى تحريك ردود أفعالها الأصلية، وتسعى لكسر معصم من تفوق وسطع نجمه، ولهذا السبب تخيف سائر الجماعات والمجموعات العلمانية لتضمهم إلى صفها، وتوزع الموارد وتقدم الرشاوى للآخرين حتى تقضي على من تستهدفه، وعندما يحين الوقت المناسب تعاقب من يدير العملية في السلطة، وكذلك تسترجع كل ما منحته للجماعات كي تستخدمه كقوة لتحقيق أهدافها الواحد تلو الآخر، وتحول شركاء الأمس إلى أعداء اليوم، وتاريخ الانقلابات في تركيا يثبت ذلك.[/box][/one_third]إن اعتماد السياسات الاستبدادية على مشاريع شمولية قاعدة مطردة لا تتخلف ولا تختلف من حزب إلى آخر أو سياسة إلى أخرى. فالحزب أو الزمرة التي وصلت إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري أو ثورة أو أغلبية ديمقراطية لا يحدث فرقاً في توجّهاته من حيث الحكم، فقد يتجه هذا الحزب أو هذه الزمرة إلى يمين الوسط أو يسار الوسط، أو يعتمد شكلاً من أشكال السياسة القومية أو اليسارية أو الاجتماعية أو الليبرالية أو السياسة الدينية.
وبينما يجب أن تكون السياسات الإسلامية للقرن الحادي والعشرين، بعيدة عن هذه الوضعية، ترى الإسلاميين وقد تخلوا عن دعواتهم وتحدياتهم وتبنوا فكرة الدولة التي تبلورت في الفترة الواقعة بين عهدي التنظيمات والجمهورية، ولأنهم لم يحللوا المهمة الفلسفية للدولة القومية المعاصرة وهيكل السلطة بشكل صحيح، فإنهم اكتفوا بإضافة “الصوص الديني” على السلطة المذكورة، وفي نهاية المطاف لم يختلفوا في ذلك عن السياسيين العلمانيين الذين لا يفقهون شيئًا عن السياسة والسلطة.
هناك أسباب مفهومة عمليًا للرغبة في أن تكون هذه الجماعة أو تلك مؤثرة داخل الدولة، ألا وهي:
1- لم تستطع الدولة العصرية المقبولة عالميًا أن توفر التعددية الاجتماعية – الثقافية حتى الآن.
2- يذوب ويفنى كل من لا يجد لنفسه سندًا داخل الدولة.
3- كل مشروع أو خدمة ، أو نشاط خيري موجه للمجتمع مرتبط في أحد جوانبه بالدولة والبيروقراطية.. “إذا تركتم السياسة، فإن السياسة لن تترككم”.
ويسير الأمر على هذا المنوال، غير أنه في الوقت الذي تكون فيه الدولة هي التفاحة الحمراء لدى الجميع، فإن البعض يظهرون أداءً عاليًا، ويتفوقون على الآخرين بمساعيهم وطاقاتهم، وعند هذه النقطة، تحديدا، تبادر الدولة إلى تحريك ردود أفعالها الأصلية، وتسعى لكسر معصم من تفوق وسطع نجمه، ولهذا السبب تخيف سائر الجماعات والمجموعات العلمانية لتضمهم إلى صفها، وتوزع الموارد وتقدم الرشاوى للآخرين حتى تقضي على من تستهدفه، وعندما يحين الوقت المناسب تعاقب من يدير العملية في السلطة، وكذلك تسترجع كل ما منحته للجماعات كي تستخدمه كقوة لتحقيق أهدافها الواحد تلو الآخر، وتحول شركاء الأمس إلى أعداء اليوم، وتاريخ الانقلابات في تركيا يثبت ذلك.
إن هذه دائرة فاسدة أو حلقة مفرغة، ويجب الخروج منها، وسنتناول هذا الموضوع في مقال لاحق بإذن الله.