في شهر يونيو منذ خمسة وعشرين عامًا، عكف العالم على مشاهدة النهاية الْمُذهِلة للحرب الباردة، ففي الاتحاد السوفييتي، كان الرئيس ميخائيل جورباتشوف منهمكًا في تنفيذ سياسات الجلاسنوست والبروسترويكا، في الوقت نفسه الذي كان الألمان الشرقيون يجابهون فيه حائط برلين، والنظام في بولندا يتداعى تداعيًا مباغتًا.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] يتحدى هذا النموذج الصيني المنطق القائل بأن من شأن التنمية الاقتصادية أن تؤدِّي إلى الديموقراطية، فعلى النقيض من ذلك، أثبتت الصين، بهذا النموذج الذي بات حُلمًا يُراود جميع الحُكَّام المستبدين، أن من شأن التنمية الاقتصادية أن تؤدِّي إلى الاستقرار السياسي.[/box][/one_third]وبينما كانت تتكشف هذه الأحداث الجِسام، تَحَوَّلَت جميع الأنظار آنذاك إلى “ساحة تيانانمن” في الصين، حيث كانت حركة الاحتجاجات الشعبية تكتسب زخمها. وفي الرابع من يونيو منذ خمسة وعشرين عامًا، قرر الحزب الشيوعي الصيني اتخاذ الإجراءات اللازمة والقضاء على هذه الحركة الاحتجاجية بطريقةٍ وحشية، حتى إن الأرقام الدقيقة للضحايا ما زالت مجهولةً حتى الآن، وإن اعتُقد أن آلاف المواطنين قد لقوا حتفهم عندما أطلق الجيش نيرانه على المتظاهرين المدنيين الذين كان معظمهم من الطلاب على الأرجح.
وبطريقةٍ مأساوية، نجحت إجراءات القمع الصارمة. وفي حين أن الاتحاد السوفييتي قد تلاشى، فما زال الحزب الشيوعي الصيني يحكم البلاد، وإن كان النظام الصيني القائم على حكم الحزب الواحد ودولته البوليسية ما فتئا يخافان من توابع ما جري منذ خمسةٍ وعشرين عامًا.
ولعل أوضح الأدلة على هذا الخوف هو ما اتخذته الشرطة الصينية من إجراءاتٍ استثنائيةٍ في ساحة “تيانانمن” هذا الأسبوع، إذ لم تسمح السلطات الخائفة من محاولة إحياء الذكرى الخامسة والعشرين للمذبحة للسكان المحليين أو الصحافة الأجنبية بدخول الساحة.
وقد كان محتجو “حديقة جيزي” الذين لم يُسمَح لهم بدخول ميدان “تقسيم” لإحياء الذكرى السنوية الأولى لحركتهم سيشعرون إذا كانوا في بكين (التي حالت تدابير شرطتها دون دخول المواطنين إلى الميدان الرئيسي للمدينة) كما لو كانوا في وطنهم تمامًا!
وبطبيعة الحال فينبغي للمرء ألا يعقد مقارنةً جدِّيةً بين حالتَي الديموقراطية التركية والصينية، فبكل تأكيدٍ يُعدُّ الوضع التركي أفضل كثيرًا من نظيره الصيني من حيث المكانة الديموقراطية، وإن دلَّت حقيقة حاجتنا إلى كتابة مثل هذه العبارات وحدها على ما بلغته تركيا من الاضمحلال في أعيُن العالم.
نعم، إن تركيا تَفْضُل الصين من الناحية الديموقراطية، ففيها انتخاباتٌ حُرَّةٌ وأحزابٌ معارضةٌ ومجتمعٌ مدنيٌّ أكثر تطوُّرًا، ولكنْ هل يكفي ذلك لتعزيتنا؟
إن ما ينبغي لنا هو مقارنة تركيا بالديموقراطيات الغربية، لا بالصين، إلا أن عدد الصحفيين المسجونين في السجون التركية -وَفْقًا لِمَا يقوله كثيرٌ من الدول الغربية- يفوق عدد نظرائهم المسجونين في السجون الصينية والإيرانية مجتمعة، وهذا ما أعنيه بمشكلة “تركيا في أعيُن العالَم”.
وبالتأكيد لا ينظر القادة الأتراك إلى الصين باعتبارها نموذجًا للديموقراطية التركية، والواقع أن عنوان هذا المقال لا يتحدث عن احتذاء حزب العدالة والتنمية النموذجَ الصينيَّ فيما يتعلق بالناحية الديموقراطية، إذ يعرف كل مَن له بعض الدراية بمصطلح “الاقتصاد السياسي” أن “النموذج الصيني” إنما يُحيلنا إلى الاقتصاد السياسي، وأنه يقوم على أساس معادلةٍ بسيطة مَفادها أن “تحقيق النُّمُوّ ضمانةٌ للرِّضَا الشعبي”.
وبهذا المعنى فإن الدرس الذي استفاده الحزب الشيوعي الصيني من واقعة ساحة “تيانانمن” كان جليًّا، فقد برزت الحاجةُ إلى الإسراع بوتيرة الإصلاحات الاقتصادية لتهدئة المواطنين. بعبارةٍ أخرى فإن الجماهير لن تخرج إلى الشوارع ما دامت أحوالهم الاقتصادية في تحسُّن. وبهذا قام النموذج الصيني، أو “إجماع بكين” كما عُرف لاحقًا، على توفير النُّمُوّ الاقتصادي في مقابل اكتساب الشرعية السياسية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]هذا هو النموذج الصيني الذي يسعى حزب العدالة والتنمية إلى احتذائه، إذ يعرف أردوغان جيدًا أن قدرته على حكم البلاد بطريقةٍ استبداديةٍ مرهونةٌ بتحقيق النُّمُوّ الاقتصادي والازدهار. ونتيجةً لذلك يتمخَّض هذا النُّمُوّ الاقتصادي في تركيا حاليًّا عن استقرارٍ سياسيٍّ يرتدي عباءة الاستبداد.[/box][/one_third]لهذا السبب ففي أعقاب عام 1989 أعطى الحزب الشيوعي دَفعةً جديدةً لانفتاح البلاد على الرأسمالية الذي كان مهندس النموذج الصيني التنموي، الزعيم الشيوعي الراحل دينغ شياو بينغ، قد بدأه بالفعل إبان عقد السبعينيَّات من القرن العشرين.
وكلنا يعرف النتيجة جيدًا، فقد دأبت الصين على مدار الخمسة وعشرين عامًا الماضية على بلوغ معدَّلٍ سنويٍّ من النُّمُوّ قدره 10 بالمئة، وفي المقابل يحظى النظام بالتأييد الشعبي، وإن كان “تأييدًا على مضض”.
بهذا يتحدى هذا النموذج الصيني المنطق القائل بأن من شأن التنمية الاقتصادية أن تؤدِّي إلى الديموقراطية، فعلى النقيض من ذلك، أثبتت الصين، بهذا النموذج الذي بات حُلمًا يُراود جميع الحُكَّام المستبدين، أن من شأن التنمية الاقتصادية أن تؤدِّي إلى الاستقرار السياسي.
وهذا هو النموذج الصيني الذي يسعى حزب العدالة والتنمية إلى احتذائه، إذ يعرف أردوغان جيدًا أن قدرته على حكم البلاد بطريقةٍ استبداديةٍ مرهونةٌ بتحقيق النُّمُوّ الاقتصادي والازدهار. ونتيجةً لذلك يتمخَّض هذا النُّمُوّ الاقتصادي في تركيا حاليًّا عن استقرارٍ سياسيٍّ يرتدي عباءة الاستبداد.
وتمامًا كما في حالة الصين، يشعر المواطنون الذين يجنون المال ويتلقون خدماتٍ حكوميةً ملائمةً ويشهدون حراكًا ماليًّا متصاعدًا بالسعادة لغضِّهم الطرف عن الاستبداد والفساد والتدهور البيئي. فبمعنىً مأساوي، أصبح النموذج الصيني هو عين طريق حزب العدالة والتنمية إلى السيادة والهيمنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم عمر تاسبينار، صحيفة تودايس زمان، 8 يونيو 2014.