يعتبر التقرير الذي أعدّته منظمة العفو الدولية بخصوص الذكرى الأولى لأحداث ساحة “جزي” في إسطنبول بمثابة معطيات هامة تدل على عدم استقاء الحكومة التركية الدروس والعبر من تلك الأحداث التي شهدتها تركيا.
ويقول “صليل شتي”، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية، الذي سنحت لي الفرصة للالتقاء به في تركيا وتجاذبتُ معه أطراف الحديث بشأن مجريات الأمور في تركيا: “كنا نأمل أن تأخذ العدالة مجراها في أحداث ساحة “جزي”، إلا أنّ ما شاهدناه الآن لا يبشر أبدًا بتحقيقها؛ إذ بعد مُضيّ عام واحد على الأحداث كنا نأمل أن نرى اليوم دولة حققت العدالة، وضمدت جروحها، وتضافرت قواها. لكن، وللأسف الشديد، بعد اطلاعنا على ما آلت إليه الأمور في تركيا خلال عام كامل، رأينا صورة مُغايرة لتلك التي كنا نأمل أن نراها”.
وذكر أنه على الرغم من قيام حكومة أردوغان بأعمال هامة مثل القضاء على أعمال التعذيب في السنوات الماضية، إلا أنهم يرون أن نجاحات الحكومة التي أحرزتها في السابق آخذة الآن في العودة للوراء، لا سيما في مجالي حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، مُشيرًا إلى أن تركيا باتت تفضّل انتهاج سياسة الصدام والتآمر.
أجل! لقد تحولت المظاهرة الاحتجاجية التي اندلعت قبل عام إلى تظاهر فوضويّ دام لأسابيع وأسفر عن آلام مُفجعة. وأحد أهم الأسباب التي أدّت إلى ذلك هو موقف الحكومة المعارض لطلبهم، عندما أرادوا ألاّ تُقطع الأشجار ويُبنى بدلًا منها مركزٌ تجاري للتسوق، وزاد من حدّتهم قولُ الحكومة “نحن اتخذنا قرارنا، وسنبني المركز، فمن أنتم حتى تقفون حيال ذلك؟” ولعلكم تتذكرون ما حدث لاحقًا؛ إذ كانت هناك مساعٍ من قبل رئيس الجمهورية عبد الله جول ونائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش لتهدئة الأجواء، بيد أن أردوغان تصدّى بعنف لذلك. وحاولوا قمع الأحداث بشكل أعنف يومًا بعد يوم. ومنذ ذلك اليوم والمسؤولون عن إدارة الدولة يستخدمون لغة الحرب في تصريحاتهم وقراراتهم.
وما دام الوضع هكذا، فعلينا إذن أن نجد جوابًا على هذا السؤال: “خلال السنوات القليلة الماضية، هل يمكن لرئيس وزراء لَكَم بعنف رجلاً اعترض واحتجّ عليه أن يدير مرحلة السلام في منطقة جنوب شرق تركيا؟
لماذا يقف رئيس وزراء لم يخفض من ضغطه بل يزيد باستمرار من حِدّة التوتر مهما كان الثمن صامتًا ومعتدلًا تجاه الأحداث التي تشهدها منطقة جنوب شرق تركيا، على الرغم من خطر وقوع الدولة في بلبلة كبيرة؟ هل خشيةَ حدوث اضطرابات في الشرق، وألاّ تسيل فيها الدماء؟ ومادام أردوغان يفكر في الناس إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يظهر هذا القدر من الدقة والاهتمام في المنطقة الغربية من تركيا؟
فقد وقف الجيش مكتوف الأيدي تجاه حادثة إنزال العلم التركي، نزولاً عند الإرادة السياسية، حيث أعطيت للجنود تعليمات بعدم الرد نهائيًّا على المنظمة الإرهابية في جنوب شرق تركيا. بينما وجّه رئيس الوزراء توبيخات لأناس، لم يُلحقوا في حياتهم ضررًا لأحد، بكلمات بذيئة لا يمكن التفوه بها إطلاقًا، وقد اكتفى بقوله على من أنزلوا العلم “افترضوا أنني قلت أسوء الكلمات التي يمكن أن تقال إزاء هذه الحادثة”.
وفي مثل هذه الأجواء، يبدو من الصعب إحلال السلام في منطقة جنوب شرق تركيا. وأكبر دليل على قولي هذا، أن عملية السلام لا تجرى بنيّة حسنة. الأمر الذي يحرّك عجلة مفاوضات السلام ليس كيّ القلوب جراء الأبناء المفقودين أو الشعور بالحزن العميق من الدماء المسالة أو النزاعات السائدة، وإنما الأمر الذي وراء ذلك هو تحقيق حصول حزب الشعب الديمقراطي؛ أحد الأجنحة السياسية لحزب العمال الكردستاني الإرهابي، على 7% من الأصوات، وفق لعبة وسيناريو بينهما، تتمثّل في “أنا أعطيتكم في الانتخابات المحلية، وأنتم تعطوني في الانتخابات الرئاسية”. ولهذا السبب فالحكومة هي التي أعدّت الأرضية – مع الأسف – لحدوث الحركة الاستفزازية المتمثّلة في إنزال العلم التركي وهي جزء من هذه اللعبة والسيناريو الكبيرة. لأن الحكومة تقول للطرف الآخر “أحتاج صوتك”. ويرد الطرف الآخر عليها “هناك ثمن لكي أعطيك صوتي، فينبغي عليك أن تدفع ذلك الثمن”.
فكيف للذين يديرون الدولة بضغط مرتفع، وينهكون قوة الناس بالتوتر والغضب وحرب الأعصاب، ولا تحمل ثغورهم حتى أدنى الابتسامات الصغيرة، أن يحملوا السلام لجزء آخر من هذه البلاد؟ فلكي يتسنى لهم حمل السلام، يجب عليهم أولا أن يشعروا بآلام الأبناء في القلوب وليس على ألسنتهم. وإن لم تكن قلوبهم نقيّة مثل الحمام، فلن يستطيعوا حمل السلام إلى أي مكان آخر.
ـــــــــــــ
الكاتب محمد كميش