في سنوات دراستي، كان لنا أستاذ، رقيق الحِس بالأطفال، كان يحدثنا عن تفاصيل دقيقة بخصوص عالم مشاعر الأطفال.
وقد قال لنا، وهو يبتسم، إن قلب الطفل صغير جدًا.
أظهر لنا ما بين أصبعيه، وقال “إن قلب الطفل صغير إلى هذا الحد”، ثمّ ابتسم.
وأضاف قائلًا: “إذا ما شعر قلبه الصغير بنشوة تجده يخفق من الفرحة”.
البالغون يضحكون على أنفسهم عند تعثرهم، أما الأطفال فيبكون عندما يتعثرون.
ثم قال الأستاذ مبتسما في رقّة وحنان: “ربما لا ينقضي ألم ركبته عندما يبكي، ولكنه يكف عن البكاء بمجرد أن تأتي أمه إلى جواره بعد سماعها لصوت بكاءه”.
وقال: “على سبيل المثال، الطفل يخاف من الظلام، ولا يمكن أن يسير إلى الأمام إذا كان خائفا، وعندئذ تجده يهرع على الفور من مكانه قائلا: أُمـــاه”
ثم لاذ أستاذنا إلى الصمت هنيهة…
قال وعيناه مغرورقتان بالدموع:
“الطفل إذا ما خاف بكى”
وبَحّ صوت الأستاذ…
ثم خطى بضع خطوات حتى يستجمع قواه، وحاول أن يستأنف حديثه، لكنه عجز عن ذلك…
نظّف حنجرته بسعال خفيف، وقال “الطفل”.. ولم يكن في وسعه أن يتحدث…
وأنهى الدرس قائلًا: “نلتق في الدرس القادم يا أصدقاء”.
استرعى انتباهي الاستاذ وهو يبكي عندما كان يسير بسرعة في ممر المدرسة.. ربما لم يأبه به أحد، لكني دُهشتُ لذلك الموقف.
وذات يوم وجدت الفرصة سانحة، فسألته: “ما السبب الذي جعل لسانك يتلعثم ولم تتحدث يا أستاذي؟”. قال: “لا أدري.. انتابتني عاطفة فجأة، لا تُبال”.
عندما ألححت عليه بدأ يحكي ويقول: “في ذلك اليوم، بينما كنتُ أحدثكم عن التفاصيل الدقيقة عن عالم مشاعر الأطفال، قلت إن الطفل يبكي عندما يخاف أو يُذعر من شيء، فحينها خطر على بالي أطفال البرازيل؛ إذ كانت أعداد أطفال الشوارع تزداد في البرازيل في أعوام 1990، فالحكومة كانت ضعيفة وخبرتها غير كافية للتعامل مع الأطفال علميا، ووقفت عاجزة حيال ذلك. موضوع الأطفال في البرازيل أفقدت الحكومة اعتبارها.. لم يُعرف ما حدث لاحقًا حيث فُقد ما يزيد عن ثلاثة آلاف طفل من أطفال الشوارع، فجأة، دون معرفة السبب. وقد عمّ الخبر أرجاء العالم فيما بعد. إذ تبين أنّ هؤلاء الأطفال قد لقوا حتفهم بالرصاص في رأسهم. فأثّرت فيّ حالة خوف طفل رُفع على رأسه السلاح. وربما بكوا وهم يُقتلون، فالطفل يبكي عندما يخاف.”
وشعرتُ بإحساس غريب عندما استمعتُ إلى حكاية أطفال البرازيل.
وانتابني شعور مختلف وأنا أُطالعُ ذكريات حرب البوسنة. حاصر الجنود المبنى، ثم كسّروا الأبواب واقتحموا المبنى من الطابق الأسفل حتى الطابق العلوي.. أمطروا وابلا من الرصاص على الموجودين بالمنزل كافة.. و قد كان بجلس طفلٌ وأمه مختبئين وراء كرسي في الطابق العلوي.. كان الطفل خائفًا مذعورًا من هول الموقف، لكنه يبكي. وما أن اقترب صوت الأسلحة حتى التفت إلى أمه وسألها: “أماه.. الجنود يطلقون على الأطفال رصاصًا صغيرًا حتّى لا يتألمون، أَليس كذلك؟”.
لا أعلم في أي مكان استقرت الرصاصة في جسد الطفل.. وهل تألم! لكن روحي تحترق وتتألم كثيرًا إلى اليوم.
أحس في داخلي بألم أُم ترى ابنها وهو معرضٌ لرصاص هؤلاء الجنود.. إنني أتألم لذلك كثيرًا…
أستمع لأم اختطف أطفالها في مدينة “دياربكر” الواقعة شرق تركيا، تقول “إبني يخاف الظلام، أرجوكم أن تحضروه إليّ”.. إنني أتألم لذلك كثيرًا…
إنني أرى عجز دولتي – تركيا – تجاه الأطفال المختطفين تحت تهديد السلاح.. إنني أتألم لذلك كثيرًا…
وإذ تقع كل هذه الحوادث أفكر في أولئك المسؤولين والمثقفين الذين اكتسوا بصمت الموت لعجزهم عن تحريك المؤسسات مثل: اليونيسيف، لجنة المتابعة لحقوق الطفل للأمم المتحدة.. إنني أتألم لذلك كثيرًا…
لا أدري هل لأن أطفال بلدنا تافهون بلا قيمة.. أجد الجميع يقذف الكرة في ملعب الآخر.. ولا أحد قادر على الإجهار بصوته.
أنا مُندهش حقًّا.. مندهش بصفتي عالم تربية في هذه الدولة.. مندهش بقدر اندهاش أولئك الآباء والأمهات اللذين اِخْتُطِفَ أولادهم.
أندهش حين أنبهكم بألا تقطبوا حاجبيكم اتجاه الأطفال لأن ذلك قد يضر ويؤثر على عالم مشاعرهم سلبيا، فقد بِتُّ أشعر بأنني إنسان من الفضاء، وأنني عبء ثقيل على هذه الدولة.. إنني أتألم لذلك كثيرًا…