في تركيا، تُعتبر التوصية الرئيسية التي ينصح بها كلٌّ من الاتجاهين السياسيَّين العلماني والإسلامي على حدِّ سواءٍ هي محاولة التماشي مع الغرب. وقد سعي الجميع لإثبات قدرة تركيا على أن تتمتع بنفس درجة الازدهار والديموقراطية التي تتمتع بها الدول الغربية، دون وجود فارقٍ يُذكَر -في هذا الصدد- بين أصحاب الخلفية العلمانية وذوي التوجُّه السياسي الإسلامي. لكنْ في أعقاب حادثة انفجار منجم سوما، نتذكَّر من جديدٍ أن البلاد ما زالت تعيش “على الطريقة التركية”، لا وفقًا للنمط الغربي.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]سعي الجميع لإثبات قدرة تركيا على أن تتمتع بنفس درجة الازدهار والديموقراطية التي تتمتع بها الدول الغربية، دون وجود فارقٍ يُذكَر -في هذا الصدد- بين أصحاب الخلفية العلمانية وذوي التوجُّه السياسي الإسلامي. لكنْ في أعقاب حادثة انفجار منجم سوما، نتذكَّر من جديدٍ أن البلاد ما زالت تعيش “على الطريقة التركية”، لا وفقًا للنمط الغربي.[/box][/one_third]فبعد أن لقى المئات من عمال المناجم حتفهم في بلدة سوما، لم يعد أمام المرء من مهربٍ سوى الحزن والابتئاس، لِمَا تُمثِّله هذه التجربة من مأساةٍ إنسانية، إلى حدِّ عدم معرفتنا ولو بالعدد الصحيح للعمال الذين وافتهم المنيَّة في ذلك المنجم. ومع ذلك فبعد يومٍ واحدٍ فقط من كل هذا الدمار، تَحَوَّلَت كارثة سوما إلى ساحةٍ للسِّجَال السياسي.
وكالعادة أُعلِنَ عن عدم مسؤولية أي أحدٍ عن هذه الكارثة! فلماذا لَقِيَ مئات العمال حتفهم إذًا ما دامت الحكومة بريئةً وكذلك الشركة التي تُدير المنجم؟ ومَن الذي يتحمَّل مسؤولية الحادثة؟
بطبيعة الحال، فالجواب المعتاد هو أن “الله” تعالى هو المسؤول، إذ يُبادر السياسيون (الذين يُفترض بهم تَحَمُّل التَّبِعات الرسمية على الأقلِّ) إلى تذكيرنا بأن العناية الإلهية تقف وراء جميع الأحداث الدنيوية، بما في ذلك الكوارث، وأنه يتعيَّن على البشر أن يُسلِّموا لإرادة الله، لأن عدم التسليم لإرادته إنما يعني عدم إجلاله جلَّ وعلا.
ماذا إذن عن أولئك الذين يُحمِّلون الحكومة مسؤولية الحادثة؟ حسنٌ، لقد بُودِرَ إلى وصفهم بالمحرِّضين! وإنه لَتطوُّرٌ مريعٌ آخَر من تطوُّرات ما سمَّيناه “الطريقة التركية” في التعامل مع الأمور ذلك الذي شهدناه من إلقاء قوات مكافحة الشغب قنابلَ الغاز المسيل للدموع على مُشيِّعي جنائز ضحايا الحادثة. والحُجَّة التي تُقال لنا أنهم ليسوا مُشيِّعين، بل محرِّضون، إذ تتطلَّب “الطريقة التركية” من المفجوعين بحقٍّ أن يلزموا بيوتهم، وأن يبكوا ضحاياهم في صمت.
وتُخبِرنا العلوم السياسية -كفرعٍ معرفيٍّ- أن كل الأمور التي نراها أمورٌ طبيعية، وأن كل ما يحدث إنما يحدث لتوفُّر الحراك الاجتماعيّ وغير الاجتماعي الكافي لجعله حقيقةً واقعة. وعلى هذا فقد كان أدولف هتلر شخصًا سيِّئًا لكنه طبيعيٌّ، وكانت الْمَلَكيَّة الإسبانية أمرًا طبيعيًّا، وحركة الحقوق المدنية التي عرفتها الولايات المتحدة كانت طبيعيةً كذلك… بعبارةٍ أخرى، إذا حدث وأدهشك بعضُ الوقائع، فمعنى ذلك أنك لستَ طالبًا جيِّدًا في العلوم السياسية.
ورغم اقتناعي بهذا الأساس النظري في العلوم السياسية، فإنني أتساءل -في الحقيقة- عما إذا كان بعض التطوُّرات التي تشهدها تركيا طبيعيًّا بالفعل! فهل كانت الوقائع التي أعقبت حادثة انفجار منجم سوما طبيعية، أم أننا نعيش في حُلْم؟ ورغم أنه لم يسبق لتركيا أن كانت بلدًا متقدِّمًا من الناحية الديموقراطية، إلا إننا لم نَرَ رئيس الوزراء يصفع مواطنًا من قبل. فهل يُمكن أن يكون ذلك طبيعيًّا، أم أنه شيءٌ آخَرُ مختلِف؟ ولو أن رئيس الوزراء أقدم على صفع أحد المواطنين، فربما أُعلق -كأستاذٍ في العلوم السياسية- قائلاً: “حسنٌ، إنه أمرٌ طبيعي، لأن هذه الصفعة إنما نجمت عن بعض الديناميات السياسية والاجتماعية التي تشهدها تركيا”. وبما أنه لا يُمكننا تفسير هذه الصفعة بتحميل الاستعمار الأوربي أو السياسة الخارجية الأمريكية مسؤولية حدوثها، فيجب النظر إليها -إذًا- على أنها أمرٌ طبيعيّ.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]ماذا إذن عن أولئك الذين يُحمِّلون الحكومة مسؤولية الحادثة؟ حسنٌ، لقد بُودِرَ إلى وصفهم بالمحرِّضين! وإنه لَتطوُّرٌ مريعٌ آخَر من تطوُّرات ما سمَّيناه “الطريقة التركية” في التعامل مع الأمور ذلك الذي شهدناه من إلقاء قوات مكافحة الشغب قنابلَ الغاز المسيل للدموع على مُشيِّعي جنائز ضحايا الحادثة. والحُجَّة التي تُقال لنا أنهم ليسوا مُشيِّعين، بل محرِّضون، إذ تتطلَّب “الطريقة التركية” من المفجوعين بحقٍّ أن يلزموا بيوتهم، وأن يبكوا ضحاياهم في صمت.[/box][/one_third]ولعل وجهة النظر الأكاديمية هذه تُسهِّل لي فهم أسباب تأييد عدة ملايين من الأتراك هذه الصفعةَ، لكنني إذا أقدمتُ على استهجانها فقد أُعرِّض نفسي للانتقاد الشديد، لكوني عالم اجتماعٍ سيِّئًا يعجز عن فهم حقيقة أن هذه الصفعة طبيعيةٌ تمامًا من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. لذا، ألا ينبغي عليَّ صفع طلابي الذين يزدرونني؟ هذا السؤال الذي قد يجيب عنه البعض قائلاً: “نعم، فوحدها صفعة الدولة هي الأمر الطبيعي المقبول داخل تركيا، وهو ما يعني الصفعة التي يُوجِّهُها رجال الدولة البارزون” (فهل أكون مُحِقًّا إذا استنتجت من ذلك أنه لو كانت “الحياة الطبيعية” البريطانية هي مَن شهد هذه الواقعة، لنُظر إليها على أنها “صفعةٌ ملكيةٌ مستحَقَّة”؟).
إنني على يقينٍ من أن بعض رفاقي الموالين للحكومة سيتَّهِمُونَني بالعجز عن فهم ثقافتنا التركية قائلين: “أنت واحدٌ من المستشرقين”. لكنني أوَدُّ أن أطرح سؤالاً بسيطًا على هؤلاء الزملاء الذين يزعمون أنهم يعرفون تركيا أكثر مما أعرفها: هل يُمكنكم تخيُّل سلسلة صفعات رَدِّ الفعل التي يُمكن أن تؤدِّي إليها “صفعة الدولة” هذه؟ أعني بذلك أننا إذا اعتبرنا صفع رئيس الوزراء أحدَ المواطنين تصرُّفًا عاديًّا بعدم إدانتنا إيَّاه، أفلن يكون علينا أن نُبالي بما سينجم عن ذلك من آثار تشبه الآثار الناجمة عن سقوط القطعة الأولى من قطع الدومينو المتراصَّة بعضها وراء بعض، كأن يُقْدِم رجال الشرطة على صفع المحتجَزين مثلاً، وما إلى ذلك؟
ــــــــــــــــــــــــ
جريدة تودايس زمان، 18 مايو 2014.