بقلم: علي بولاج
إنَّ بعض السياسيين سَحَرة، ولكن يتظاهرون في بداية قضيتهم السياسية بأنهم ملائكة، فيَكُزُّون أسنانَهم ويصبرون -رغمًا عنهم- على كل الإهانات الموجَّهة إليهم، فطُولُ أملهم يجنِّحهم، وطموحهم بالوصول إلى القمم يملؤهم عزمًا، وما إن يجتازوا كل هذه العقبات ويستولوا على السُّلْطة، حتى يسارعوا إلى تغيير الضوابط والمعايير التي انطلقوا على أساسها، ولكن في أثناء هذا التغيير يلجؤون إلى تلفيق قضيتهم بالشرعنة حتى لا ينازعهم أحد في سلطانهم، إذ يستخدمون شتى الوسائل للإمساك بزمام الأمور جيدًا، ولإعاقة السبل أمام خصومهم ومنافسيهم. فأصحاب هذه السُّلْطة يعدّون أنفسهم فوق الجميع، إذ يتشبثون بالذروة ويتعلقون بإغراءاتها، فينفقون معظم أوقاتهم لحماية ظهرهم من الخصوم والمنافسين، لا سيما من السياسيين [one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]عندما حَبِطَت مساعي أصحاب السُّلْطة وفشِلَت خُطَطُهم، بادروا إلى إلقاء أخطائهم على السَّحَرة كِباش الفداء، وأحرقوهم أمام أعيُن الناظرين أحياءً ليبرِّئوا أنفسهم ويتستَّروا على ذنوبهم.[/box][/one_third]الذين يبذلون قصارى الجهود ويتحمَّلون مشاقَّ الصعود من أجل الوصول إلى الذروة التي هم عليها، لأن أصحاب هذه السُّلْطة يدّعون أنهم ضحوا بكثيرٍ حتى اعتلَوا عرشها، يدّعون أن أجنحتهم احترقت بنار السياسة، وألسنتهم اهترأت بسبب الوعود التي وعدوها، والعهود التي نقضوها، والأصدقاء الذين خذلوهم في هذه السبيل… بعد كل ذلك لم يبقَ أمامهم سوى ارتداء عباءتهم وركوب مِكْنَستهم ثم الطيران، لكي يروا الأوضاع من عَلٍ وينصبوا المكايد لخصومهم. كما أن المتربعين على هذه الذروة يعرفون من خلال تجاربهم العديدة طُرُقَ الصعود وكيفية البقاء في الأعالي. ومَن غَير الساحرة العجوز الشوهاء، يعتبر الأفراد الذين يسعون لاقتحام العقبات سَحَرَةً، ويتَّهمهم بالسحر والشعوذة؟!
مطاردة الساحرات هي عملية جنونية يعود أصلها إلى عصور الظلام في تاريخ أوربا، وقد وردت هذه المقولة في التوراة في سِفْر الخروج (22/18): “لا تدَعْ ساحرةً تَعِشْ”. مفهوم الساحرة في حقيقة الأمر هو نفس مفهوم كَهَنة يومنا هذا الذين يزعمون أنهم ينقلون أخبارًا من الغيب. ظهر السِّحْر مهنةً خُرافيةً أو حاجةً شعبيةً بين شعوب العصور القديمة، ويمكننا أن نُدرِك قِدَم هذه الخرافات وقَبول الناس لها، بالنظر إلى المنجِّمين والعرَّافين والكَهَنة في يومنا هذا. كانت اليهود تُلقِي كل أخطائها وذنوبها التي تقترفها على أُناسٍ تتَّهمهم بالسحر والشعوذة، ثم ترجمهم بالحجارة ثم تنبذهم وتطردهم، ممَّا يؤدي إلى تَبَنِّي هؤلاء المنبوذين مهنة السحر وممارستم إياها بين الشعوب.
نعم، عندما حَبِطَت مساعي أصحاب السُّلْطة وفشِلَت خُطَطُهم، بادروا إلى إلقاء أخطائهم على السَّحَرة كِباش الفداء، وأحرقوهم أمام أعيُن الناظرين أحياءً ليبرِّئوا أنفسهم ويتستَّروا على ذنوبهم. حاوِلوا أن تنظروا إلى المسألة بشكل معكوس، إذا كان الإنسان يُقذَف في النار حيًّا أمام أعيُن الناس، فيجب أن يكون هذا الإنسان قد اقترف أعظم الذنوب، وإذا كان قد اقترف أعظم الذنوب ليستحقَّ هذا الجزاء الذي تقشعرُّ له الأبدان، فينبغي أن يكون جميع الناس أبرياء. ولعلَّ هذا من أبسط النماذج لإدراك منطق مطاردة الساحرات.
إذن يكفي أن تكونوا أصحاب سلطة وقُوَّة لتتَّهِمُوا أُناسًا بذنب، ثم تكبِّلُوهم وتُحرِقوهم أحياءً بين النيران أمام أعيُن الشعب وَسْط الميادين، ولا حاجة في ذلك إلى أن تقدِّموا دليلاً أو برهانًا، ولا حاجة إلى إثبات الجريمة على المتهَم! فبهذه الطريقة يمكنكم -أنتم أصحابَ القوة والسلطان- أن تقضوا على كل مخالفيكم، وتُعلِنوا عن سلطتكم الجبارة للناس الذين يشاهدون ألسنة النيران الملتهبة العالية… ثم يمكنكم أن تركبوا مِكْنَستكم، وتجتازوا كل العقبات، وتُخضِعوا كل مَن تَبَقَّى مِن الشعب لسطلنكم الجبار.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يكفي أن تكونوا أصحاب سلطة وقُوَّة لتتَّهِمُوا أُناسًا بذنب، ثم تكبِّلُوهم وتُحرِقوهم أحياءً بين النيران أمام أعيُن الشعب وَسْط الميادين، ولا حاجة في ذلك إلى أن تقدِّموا دليلاً أو برهانًا، ولا حاجة إلى إثبات الجريمة على المتهَم! فبهذه الطريقة يمكنكم -أنتم أصحابَ القوة والسلطان- أن تقضوا على كل مخالفيكم، وتُعلِنوا عن سلطتكم الجبارة للناس الذين يشاهدون ألسنة النيران الملتهبة العالية.[/box][/one_third]من هذا المنطلق فإن مقولة “اخلع عباءتك وتعالَ!” لا تعبِّر عن تحدٍّ من التحديات… إذن صاحب السُّلْطة الذي يعتمد على مِكْنَسته، هو الوحيد الذي يحقُّ له أن يعتبر السياسة -حَسَب نظرته- كأنها حِرْفة أو مهنة يمكن ممارستها! أيْ إن السياسة بالنسبة إليه هي مهنة كالطب، والتدريس، والقضاء، والنيابة العامة، والنجارة… ومن ثَمَّ ينبغي لِمَن يريد الانخراط في مجال السياسة أن يتخلَّى عن حرفته التي يمارسها ويخوض في حرفة السياسة، وإلا فلا يحقُّ له إبداء رأيه في مهنة السياسية هذه، وإطلاق الأحكام ثم نقلها إلى العامَّة.
وأمَّا مقولة “السياسة حرفة” فتتضمن أمرين: أن الناس يكسبون لقمة العيش بالسياسة، وأن المسجِّلين فقط في غرفة المهن يحقُّ لهم أن يمارسوا هذه الحرفة. ولا يغُرَّنَّكُم تسمية ذلك في العهود القديمة بـ”الدكتاتورية”، إذ يُحتمَل أيضًا وجود أفراد يمارسون السياسة مِهنةً حتى في النظام الديموقراطي الذي يعطي الجميع حقَّ ممارسة السياسة، من مواطنين منتخِبين إلى عاملين في فضاء السُّلْطة بكل مستوياتها. ولكن الواجب علينا أن ننوه بأن هذه العقلية خاصَّة بالسَّحَرة فقط! وإذا كانت السياسة مهنة، فيجب أن تكون مسجَّلة في غرفة المهنيين نفسها، كالساحرات، والكهنة، والمنجمين، والعرّافين.
إذن، لنا الحق في أن نعتبر كلَّ مَن يدَّعِي مطاردة الساحرات ويزاول السياسة مهنةً متميزةً بين المهن ساحرًا، وما دامت العباءة التي تلبسها السَّحَرة نوعًا من أنواع العباءات العادية، فندعو هؤلاء السَّحَرة إلى عدم الاختباء وراء القانون والديموقراطية، بل ندعوهم أن يلبسوا عباءاتهم ويركبوا مكانسهم ويخرجوا لمواجهتنا، لكي نعرف سبب ممارسة هذه المهنة (التي تعود إلى عهود أوربا المظلمة) في بلادنا الإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــ
جريدة زمان، 15 مايو 2014.