أنقرة (الزمان التركية): عقد مجلس “شورى الشؤون الدينية” اجتماعا طارئًا في الرابع من أعسطس / آب الماضي واتخذ بعض القرارات ضد “حركة الخدمة” ثم أُمليت تلك القرارات لاحقًا على المشاركين في اجتماع مجلس الشورى الإسلامي الأورو-الأسيوي التاسع الذي عقد في إسطنبول في الفترة ما بين 11 و14 أكتوبر / تشرين الأول الجاري.
والواقع أنَّه كان من المفترض أن ينعقد مجلس الشورى الإسلامي الأورو-الأسيوي بعد شهرٍ من ذلك التاريخ، غير أنه قُدِّم عن موعده كي يتسنى رفع تلك القرارات إلى اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي وتقديمها إليه بصورة رسمية وكأنه أمر متفق عليه بين العلماء.
قبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى أن المشاركين في هذا المجلس لا يمثلون العالم الإسلامي أجمع، كما يبدو أن جميعهم ليسوا على علمٍ بمضمون تلك القرارات التي اتخذتها رئاسة الشؤون الدينية التركية فيما بينها ضد حركة الخدمة، لأننا لا نعرف ولا نتوقع أن عالماً مسلمًا يُقرُّ أو يُوقع على تلك المزاعم الواهية الخالية من الحجة والبرهان.
ورغم كثرة المزاعم والافتراءات الواردة في التقرير وتتطلب ردًا مستقلًا على كلٍّ منها، فإننا نؤمن بضرورة تناول هذا التقرير من حيث منهجه بصفة خاصة، ولهذا فإننا سننتقد التقرير بشكل موضوعي من ناحية الأصول والمبادئ، وسنجيب في هذا الإطار أيضًا على بعض الادعاءات الواردة فيه.
1- استخدام لغة سياسية
كان من المتوقع والمفترض استخدامُ لغةٍ دينية وشرعية في التقرير الذي أعدته مؤسسة دينية مثل رئاسة الشؤون الدينية التركية، غير أنه يُلاحظ أن الخطاب السياسي هو المسيطر في التقرير بصفة عامة، بل إنَّ العنوان العام الموجود على غلاف التقرير نفسه يحمل اسمًا (الكيان الموازي) لَفَّقَه السياسيون مؤخرًا. وعليه فهذا فحسب ما يمكن توقعه من تقريرٍ أُعِدَّ بناءً على تعليمات صريحة من السياسيين أمام شاشات التلفاز.
علاوة على ذلك، فإنَّ العبارات الواردة في هذا التقرير مثل: “التسلل إلى الدولة”، و”تحويل الأنشطة والفعاليات التعليمية والتربوية إلى شبكة من المصالح والنفوذ”، و”الانقلاب ليلة 15 تموز / يوليو”، و”إعلان الحرب على بني وطنه”، و”كيانٌ محوره الفتنة والتفرقة” تتطابق تمامًا وعبارات الإرادة السياسية الحالية.
إن تلك الادعاءات تخلو من البراهين والأدلة تمامًا، وقد كذَّبتها كلها حركة الخدمة عندما أُشيعت، علاوة على أنَّ قسمًا من تلك الادعاءات قد رفضته المحاكم سابقًا وأصدرت فيه حكمها، وبالرغم من تكذيب الحركة لتلك الادعاءات وقراراتِ المحاكم الصادرة بشأن بطلانها، إلا أنَّ ثمة مجموعةً من السياسيين تُواصِل جمعَ وحشدَ مؤيدين لها عبر استخدام تلك الادعاءات والمزاعم مادةً ووسيلةً لحملة دعائية هجومية، ورئاسة الشؤون الدينية باستخدامها تلك الأقاويل واللهجة تكون قد قوّت مزاعم السياسيين الزائفة الموهومة.
2- استخدام عباراتٍ وشعاراتٍ لمجموعات وفصائل هامشية متطرفة
عندما ننظر إلى التقرير بصفة عامة نلاحظ كثرة استخدام اللغة والأسلوب الذي تستخدمه المجموعات الهامشية المعروفة بمواقفها المتطرفة في المجتمع. وهذا يدل على أن التقرير أعدته بصورة أساسية شرذمة قليلة تُنَمِّى مشاعر العداوة وتَبُثُّها ضد الخدمة بدلاً من هيئة علمية. وتلك العبارات التي سنسوقها أدناه تمثل نموذجاً على تلك الخطابات الرامية إلى التشويه فحسب التي ذكرناها آنفاً:
“المشروع السري للنظام العالمي”، و”كيان يُدفع ويُدار بواسطة عقل مدبر معروف”، و”يتعاون مع القوى الخارجية”، و”يخدم الآمال والأطماع الخفية للقوى العظمى”، و”مشروع عالمي جذوره في الخارج”، و”تحقيق السيادة الدنيوية لصالح قوى الظلام في دول شتى”، و”التحالفات والمهام السرية التي تحملتها في العالم”.
3- سيادة الأحكام المسبقة وادعاء الاطلاع على النوايا الخفية في التقرير
العبارات السياسية والادعاءات الواهية غيرُ الثابتة والعبارات الدعائية المستخدمة في التقرير تظهر أنه تسيطر عليه وجهة نظرٍ تعتمد على أحكام مسبقة أكثر من كونه نقدًا علميًا؛ حيث تم تفسير المواقف التي يمكن اعتبارها طبيعية وعادية إذا ما تم تناولها بموضوعية تفسيرًا مختلفًا كثيرًا، وقُدمت تقديمًا غريبًا أيضًا؛ إذ جرى تناولها اقتناعًا بحكمٍ مسبق معينٍ.
أ- يزعم التقرير الحصول على واردات مادية تحت اسم الزكاة و”الهمة”
مع أنّ الفعاليات من قبيل جمع التبرعات وتوزيعها وذبح الأضاحي حق قانوني بالنسبة لكل وقف وجمعية، إلا أنّ التقرير يقدم قيام حركة الخدمة بمثل هذه الفعاليات وكأنه جريمة. طلبُ مساعدة الناس من أجل العمل الخيري، أيا كان اسمه، ليس محرمًا شرعًا، كما أنه ليس كذلك قانونيًا. ولاسيما أن سيدنا رسول الله قام بهذا الأمر مرات عديدة؛ فقد شجع (صلعم) مَنْ حوله على مساعدة المحتاجين، واصطحب سيدنا بلال معه وطلب جمع المساعدات من النساء اللائي حضرْن مجالس العلم التي ذهب إليها، وفعل مثل ذلك أيضًا حين كان يتجهز لغزوة تبوك؛ فجمع معونة عظيمة.
ب- يزعم التقرير في موضع آخر منه أن حركة الخدمة حرَمت المجموعاتِ الإسلاميةَ الأخرى ذلك الحوارَ الذي أسسته مع غير المسلمين
لقد وُلدت حركة الخدمة بين المسلمين، وبدأت طريقها اهتمامًا بأمرهم، ودرّست أبناء المسلمين من مختلف قطاعات المجتمع في المؤسسات التعليمية التي افتتحتها، كما قدمت المنح الدراسية وفرص العمل لأبناء المسلمين. والواقع أنه لا يمكن توليف انتقاد رغبة حركةٍ وُلدت وكبرت بين المسلمين وتعمل على خدمتهم في أن تتحاور بعد أن كبرت ونمت مع غير المسلمين لصالح السلام العالمي وبين النية الحسنة، ناهيك عن أن رئاسة الشؤون الدينية نفسها لا تزال تواصل فعاليات الحوار مع اليهود والنصارى في الوقت الراهن.
ج- يزعم التقرير استغلال مشاعر الشباب بالدموع والتواضع والقول اللين والوعظ والنصيحة
إن رئاسة الشؤون الدينية ادعت بتلك العبارات الاطلاعَ على النوايا الخفية، وأرادت وصف الأفعال والفعاليات التي أمر وأوصى بها الإسلام -كلًّا حسب موضعه- بأنها نوايا سيئة. والحالُ أنَّ ديننا يأمر بالتبليغ، ويحث على كثيرٍ من الأوصاف الأخلاقية كالبكاء والتواضع. وبينما القرآن الكريم يأمرنا بالبكاء كثيرًا والضحك قليلًا، نجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالله تعالى من “عين لا تدمع”. وكانت خصالٌ كالتواضع والنصيحة وصفًا لا ينفكّ عن عظماء الإسلام منذ تاريخ الإسلام وحتى اليوم. ومئاتُ الآلاف من الأشخاص المتعلمين المتواضعين الخلوقين الذين نشؤوا في الخدمة هم ثمارُ تلك الجهود الصادقة المبذولة.
4- التقرير ممتلئ بادعاءاتٍ وافتراءاتٍ لا دليل عليها
أكثر ما يلفت الانتباه في التقرير هو كثرة الادعاءات الخالية من أي دليل. ورئاسة الشؤون الدينية بموقفها هذا قد أخلَّت أكثر من مرة بالمبدأ القانوني القاضي بأن: “البينة على من ادَّعى.”. حتى إنَّ معظم تلك الادعاءات وصلت إلى حد الافتراء أحيانًا، وهذا الوضع يبين أن رئاسة الشؤون الدينية قد هبّت لشنّ حملة تشويه كبرى ضد حركة الخدمة.
أ- يزعم التقرير أن المنتسبين إلى حركة الخدمة صاروا بسبب أعمال الحوار أقرب إلى الثقافة المسيحية
إن حركة الخدمة تمارس فعاليات الحوار مع احترامها لموقف كل إنسان. علاوة على أنه لم يثبت حتى اليوم أن أحدًا قد تَنَصَّرَ أو تبنى الثقافة المسيحية بسبب تلك الحوارات. ومن جانب آخر، فإن حركة الخدمة قد أقنعت العالم بفاعلياتها التربوية والتعليمية أكثر من أنشطتها في مجال الحوار.
ب- يزعم التقرير أن حركة الخدمة أصدرت فتاوى لبعض المنتسبين إليها تجيز لهم شرب الخمر، والمشاركة في المتع والملذات غير المشروعة، وكذلك عدم الالتزام بأحكام الحجاب والتستر
إن المنتسبين إلى حركة الخدمة يتحركون على منهج القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا يُفتون أو يحكمون بما يُخالف الإسلام. وعليه فإنه ينبغي لرئاسة الشؤون الدينية التي تزعم خلاف ذلك أن تأتي لنا بدليلٍ واحد أو جملةٍ واحدة من كتب الداعية فتح الله كولن السبعين أو من أحاديث الوعظ ومجالس العلم التي بلغت الآلاف. لكنها للأسف افترت على حركة الخدمة افتراء عظيمًا بهذا الزعم غيرِ الصحيح الذي قالت به بتوجيهٍ من السياسيين.
ج- يزعم التقرير أن كولن قال: “لا علاقة لنا بالتصوف!”
والحقيقة أن كولن لم يقل مثل هذا لا في كتاباته ولا في مواعظه ولا في أحاديثه، بل الأمر عكس ما زعموه تمامًا؛ إذ تحدث في كتابه “تلال القلب الزمردية” عن تصوفٍ على هدي القرآن الكريم والسُّنة النبوية، علاوة على أنه كثيرًا ما يتطرق في مجالسه وكتاباته إلى المواضيع الصوفية أو الحياة الروحية والقلبية في الإسلام وضرب أمثلة من حياة أهل التصوف.
4- يزعم التقرير أن حركة الخدمة تعمل سرًا في الخفاء
والواقع أنَّ المنتسبين إلى حركة الخدمة ومؤسساتها يخضعون لقوانين الدولة، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من المواطنين والمؤسسات. كما أنَّ مؤسسات الخدمات لا تزال -سواء في تركيا أو في غيرها من الدول- تخضع لتفتيشٍ دائمٍ مِنْ قبل المؤسسات الرسمية والحكومية، ولا سيما على مدى السنوات الثلاث السابقة؛ فقد أخضعت كل مؤسسة من مؤسسات الخدمة في تركيا لتفتيشٍ متعددِ الجوانب وفُحصت فحصًا دقيقًا. تُرى هل تستطيع رئاسة الشؤون الدينية -التي لا تزال تتهم حركة “الخدمة” بالسرية- أن تفتح مؤسساتها هي لتخضع لتفتيش الدولة مثلما تخضع مؤسسات حركة الخدمة؟!
5- يزعم التقرير في موضع آخر منه أن حركة الخدمة كثيرًا ما تقدم أمثلةً ولقطاتٍ من حياة النبي عليه الصلاة والسلام عند الجماعات والمجتمعات الإسلامية، أما في فعاليات الحوار التي تنظمها فلا تتطرق إلى النبي
إن رئاسة الشؤون الدينية بادعائها هذا تكون قد وصفت وقدمت الأسلوب الذي يتبعه الأستاذ فتح الله كولن، والذي يعكس في الأساس دعوة التوحيد الموجهة إلى أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/64) وكأنه ينكر النبي. والحقيقة أنه ليس ثمة مجلس علم ولا درس وعظ ولا خطبة لم يذكر فيها كولن النبيَّ عليه الصلاة والسلام. ذلك أن لديه “غاية مثلى” تتمثل في التعامل مع كل مسألة على هدي وضوء السنة النبوية.
كما أن للأستاذ كولن كتابًا بعنوان “النور الخالد” يتحدث فيه كلِّه عن رسول الله. وقد جُمع هذا الكتاب من دروس الأستاذ ومواعظه التي استمرت حوالي 62 أسبوعًا، بالإضافة إلى أنَّه لديه سلسلة من دروس الوعظ تحمل اسم: “محبة الرسول”. كما أنَّ الأستاذ نفسه كان أوّلَ مَنِ اقْترح أن تمتد برامجُ وفعاليات “المولد السعيد” في تركيا من يومٍ إلى أسبوع، وأن يُخصَّص عامٌ بأكمله لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نظمت حركة الخدمة “ندوات الرسالة الخالدة” وعقدت “برامج وفعاليات المولد السعيد” في القاعات والاستادات في تركيا بشأن رسول الله، أضف إلى ذلك تنظيمها ندوات عالمية بعنوان “سبيل الرسول” من أجل التعريف به عليه الصلاة والسلام، كما تم إنشاء “جمعية سبيل الرسول” التي نظمت مسابقات “الجميع يقرؤونه”، ودُرّست في ظلها حياة سيدنا رسول الله لملايين الناس. غير أنه من المؤسف والمحزن جداً أنَّ السلطة الحالية التي دخلت رئاسة الشؤون الدينية نفسها في جلبابها هي من أغلقت تلك الجمعية، وفرضت عقوبات شديدة على أعضائها.
5- التقرير ملئ بالتحريف والتزييف
إن أحد أبرز جوانب التقرير هو التحريفات والتزييفات الواردة فيه. إذ نراه ينقل تصرفاتٍ وأقوالًا طبيعية بعد تحريفها وتلفيق ما ليس له أساس من الصحة. ومن ذلك على سبيل المثال:
أ- اقتطاع جملة من سياقها كانت وردت في رسالة الأستاذ إلى البابا يوحنا بولس الثاني، واعتمادًا عليها تم خلق صورة وانطباعٍ في الأذهان يبدو فيه الأستاذ وكأنه يتعاون مع البابا من أجل الحصول على الدعم من الكنائس والغرب.
والحال أن قصد كولن يتضح تمامًا عندما يُنظر إلى الرسالة كاملة؛ فقصده المشاركةُ في فعاليات الحوار التي بدأتها البابوية من قبلُ وإجراءُ فعاليات الحوار معًا لما ستعود به من نفع على الإنسانية جمعاء. وقد اقترح الأستاذ ثلاثة أمور على البابا في ذلك اللقاء، كما أنه أطلع الدولة التركية والمسؤولين في رئاسة الشؤون الدينية، على حد سواء، بذلك الأمر قبل الذهاب إلى لقاء البابا.
ب- اقتباس عبارة واردة في كتاب “النور الخالد” عبر تحريفها وتشويهها. فالعبارة الواردة في الكتاب كما يلي: “الكتمان جيء به مِنْ قبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبفضله عرفت الإنسانية الكتمان.”
الكتمان يعني الإخفاء والإسرار بالشيء. وقد تطرق كولن إلى هذا الموضوع عندما تحدث عن استراتيجيات رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربية، وأنه (صلعم) أخفى استراتيجياته في الحروب. أما رئاسة الشؤون الدينية فقد سحبت اللفظة المتعلقة بالحرب إلى جانبٍ ليست له أية علاقة بالموضوع على الإطلاق، وحرفتها على أنها “إخفاء المعلومات الدينية” وهكذا سَوَّقتها، ولم تكتفِ بهذا؛ بل واصلت عملية التشويه مفسرةً الكلمةَ بأن حركة الخدمة تمارس أعمالًا سرية وخفية.
ج- يزعم التقرير أن حركة الخدمة تُبْعِدُ الأطفال عن أسرهم دون أن ترعَى حقوق الوالدين.
يُزعمُ هذا في حين أن حساسية كولن ودقته فيما يتعلق بحق الوالدين أمر يظهر بوضوح وصراحةٍ في كتبه ومواعظه ومجالسه للعلم. وقد ألقى مواعظ وعقد مجالس خاصة في هذا الشأن. كما يُلاحظ أن احترام من ينشؤون في الخدمة لآبائهم وأمهاتهم يظهر بشكل بارز منذ صغر سنهم.
6- ليست هناك بنية أساسية قانونية
رئاسة الشؤون الدينية لم تستخدم في تقريرها لغًة ملائمة للشريعة الإسلامية ولا للقانون. فضلًا عن أنَّها تعيد وتردّد من جديدٍ المواضيعَ التي قضت المحاكم بالبراءة فيها، وتم تكذيبها في وسائل الإعلام مرات عديدة وتقدمها وكأنها جريمة. ومن ذلك مجموعة من الادعاءات الجوفاء لماَّ تَبُتَّ المحاكمُ فيها بحكم، وإنما هي من تلفيق الساسة، ومن ذلك على سبيل المثال: وضع الحركة المنتسبين إليها في مرافق الدولة للسيطرة عليها، وسعيها إلى إسقاط الحكومة في تركيا بمحاولة انقلاب ضدها.
هذه الادعاءات وما شابهها قد رفضتها رفضًا نهائيًا وباتًّا اللجنةُ العامة للعقوبات بالمحكمة العليا، عقب تحقيقاتٍ استمرت ثماني سنوات بدءًا من عام 2000م وحتى 24 يونيو 2008م.
7- الإغراق في الاجتزاء
من أكثر الأشياء التي فعلتها رئاسة الشؤون الدينية في هذا التقرير هو اجتزاء كلمة من سياقها وتقديمها بمنطق انتقائي، ومن ذلك على سبيل المثال:
أ- اجتزاؤها عبارة الأستاذ فتح الله كولن: “احتلال الصليبين بلدكم ليس خطرًا شديدًا، لأنه بينكم وبينهم خطوط حمراء” من سياقها وسباقها.
والواقع أن سياق الموضوع يكشف أن كولن يعقد مقارنة بين المظالم التي تُرتكب تحت ستار الإسلام في تركيا اليوم وبين نظيراتها الأخرى، ويذكر أن احتلال الصليبين سيكون أخفّ بالنسبة لتلك المظالم، والنص الذي اجتزئت منه تلك العبارة بسياقه وسباقه هكذا: “إن الأخطر ليس أن يجعل الشيطان الكافر كافرًا، وإنما الأخطر هو أن يُظهر المنافقَ مسلمًا، ذلك هو أخطر شيء. لذلك فإن احتلال الصليبيين بلدكم ليس خطرًا للغاية، لأنه ثمة خطوط حمراء بينكم وبينهم، فهم لا يمسُّون نساءكم وبناتكم، ولا مساجدكم بالمرة، غير أن المنافق يلبس ويخلط الأمر لدرجة أن الإسلام والكفر يبدوان –والعياذ بالله- وكأنهما أجزاء أو عناصر توليفة واحدة، فيكونان مثل اجتماع أشياء مختلفة كيميائيًا.”
ب- تزعم رئاسة الشؤون الدينية في تقريرها أن قول كولن “القدسيّون” فيه وصف لمجموعته “بالقداسة”.
وفي هذا تشويه وتحريف ينبئ عن جهل، لأن كلمة “قدسي” لفظ منسوب في النحو العربي، وتعني ما يخص المقدَّس وما يعتمد على مقدَّس. فكما أنه إذا أضاف إنسانٌ نفسه إلى رسول الله قائلًا: “أنا محمديّ” لا يكون رسولًا، كذلك فإنه لا يكون ولا يُعتبر قد ادّعى القدسية لنفسه بمجرد قوله “قدسي” أيضًا.
8- التشويه والإساءة بعبارات عامة
من أبرز خصائص التقرير الذي أعدته رئاسة الشؤون الدينية اختلاق جريمة وهمية وتشويه حركة الخدمة كلها بعبارات عامة خالية من السند والدليل، ومن ذلك مثلًا:
أ- زعمت افتراءً وبهتاناً أن حركة الخدمة نصبت مكائد ومؤمراتٍ ضد أناسٍ لم يعلنوا الخضوع التام لها.
لا يستطيع مَنْ يدعون أن حركة الخدمة تتحرك بالافتراءات والمكائد أن يثبتوا صحة زعمهم ذلك، لأنه لا وجود لشيء من هذا القبيل أصلاً؛ فحركة الخدمة تسير قُدُمًا مخاطبةً العقولَ والقلوبَ، وليس بالافتراءات والمكائد، ولا تُجبر أحدًا على فعل شيء. فمن يلتحق بصفوف حركة الخدمة يلتحق بها عن اقتناع عقلي منه، كما يمكنه الخروج منها برأيه الشخصي حين يريد. وما سيفعله له المنتسبون الآخرون للخدمة حينها ليس الافتراء عليه والكيد له أبداً، وإنما مخاطبة عقله وقلبه ومحاولة كسبه مرة أخرى. وبعض من انفصلوا عن الخدمة يتحدثون ضدها في القنوات التليفزيونية منذ سنوات، ورغم ذلك لم تفكر الخدمة في نصب أية مكيدة ضد هؤلاء النفر بأي شكل من الأشكال، ولو أنَّ شيئًا كهذا حدث لظهر وانكشف أمره.
ب- زُعم أن كولن وضع نفسه مكان السلطة المطلقة للقرآن الكريم والسُّنة النبوية.
والحال أنّ ادعاء شيئٍ كهذا بحق إنسانٍ نذر وكرّس حياته لخدمة الإيمان والقرآن، وأكد في آلاف حلقات الدرس التي نظمها، وعشرات الكتب التي ألفها، على المنهج القرآني والنبوي، لا يمكن أن يكون شيئًا آخر سوى جزءٍ من حملة تشويه وإساءة كبرى.
ج- وكمثال آخر على تلك المزاعم الادعاءُ بأن الصدقات والمنح وأموال الأضاحي التي تُجمع لا تصل إلى أماكنها دون ذكر أي دليل على صحة ذلك. وهذا الادعاء كلام عام لا أساس له يرمي إلى تعكير صفو أذهان الناس بشأن الخدمة وتشويشها، ولو أنَّ شيئًا كهذا حدث لجاءوا به دليلًا على ما زعموا.
9- الرمي بالكفر والضلال
يساوي التقرير في مواضع كثيرة منه بين حركة الخدمة والفرق الضالة، ويوحي بأنها تتبنى أفكارَ وآراء تلك الفرق، فيقال مثلًا:
1- يُزعم أن المنتسبين إلى حركة الخدمة يعملون بعقيدة “التقية”، غير أنّه لم يؤت بأي دليل يبين أين وبأي شكل مورست هذه “التقية”.
و”التقية” أساس من أسس العقيدة الشيعية فحسب، وقد رفضها علماء أهل السُّنة، كما قيل في ذلك التقرير. ولما كان كولن عالماً من علماء أهل السنة فقد رفض هو كذلك تلك العقيدة بلغة واضحة قاطعة في كتاباته ودروسه ومواعظه.
ب- ربما أكثر نماذج هذا العنوان لفتًا للانتباه هو تشبيه حركة الخدمة بطائفة الحشاشين الإسماعيلية.
والحشاشون في الأساس فرقة ضالة تابعة لحسن صباح (518/1124)، وما فعلته يختلف تمامًا عما تقوم به حركة الخدمة؛ وليس من الممكن استيعاب كيفية الربط بينها وبين الخدمة وعلى أي أساس؟!
بالنظر إلى تلك الأمثلة الثلاثة يتبين أن هدف رئاسة الشؤون الدينية هو تكفير حركة الخدمة والقول بضلالها. والحال أنَّ التعليمات التي أصدرها الساسة إلى رئاسة الشؤون الدينية فيما يتعلق بذلك التقرير كانت تطلب منها ذلك. فقد طلبوا منها أن تثبت ضلال حركة الخدمة، ولما كان إثبات ذلك أمرًا مستحيلًا راحوا يكيلون الكذب والافتراءات بكل ما أوتوا من قوة وسلطة.
10- التقرير ملئ بالتناقضات
ثمة أمر آخر يلفت الانتباه في التقرير هو تضارب ما فيه من عبارات وتناقضها مع بعضها، من ذلك على سبيل المثال:
أ- يُدعى في موضع من التقرير أن حركة الخدمة تتبنى “فكرًا إسلاميًا بدون الرسول”، بينما تُنتقد من الجانب الآخر الأضاحي التي يذبحها المنتسبون إلى الخدمة باسم الله تعالى كمظهر من مظاهر حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
ب- وفي موضع آخر من التقرير يُزعم أن حركة الخدمة جماعة خارجة على الدين، بينما يُصرَّح في موضع آخر منه بأن المنتسبين إلى حركة الخدمة يتحدثون عن الله والرسول والصحابة وعظماء الإسلام.
ج- ويُذكرُ في أحد مواضع التقرير أن المنتسبين إلى حركة الخدمة “يتمثلون سلوكًا متسامحًا إلى حد كبير مع غير المسلمين، بينما سلوكهم تجاه المسلمين من غير المنتسبين إليهم نافر وطارد ونابذ”، ويقال في موضع آخر منه إنَّهم “يتميزون بمواقف دينية تقليدية بصدد تغذية المشاعر المعنوية لمؤيديهم المتدينين والرأي العام”.
11- يزعمون أنهم ليسوا على هدي القرآن الكريم والسُّنة النبوية.
عندما ننظر إلى التقرير بصفة عامة نجد أن جميع الانتقادات الواردة فيه قد أقيمت على هذا الزعم، فمثلًا:
أ- يقال إن حركة الخدمة سحرت الناس بالرؤى والحكايات الملغزة، وهي ترجع إلى الرؤى والأحلام أكثر من رجوعها إلى القرآن والسُّنة.
والحقيقة أنه ينبغي مراجعة القرآن الكريم والسُّنة أولًا من أجل معرفة مكانة الرؤيا في الدين، وسورة سيدنا يوسف عليه السلام تتعلق من أولها إلى آخرها بتحقق الرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ”، وسمح لأصحابه بأن يقصّوا عليه رؤاهم، وفسّر تلك الرؤى التي قُصَّت عليه.
ومع أن الأمر هكذا، إلا أن الأستاذ كولن أكّد في كل مناسبة أن الرؤى لا تلزم عامة الناس، وأنها لن يُعمل بها إلا إذا وافقت القرآن والسنة. وبينما كلامه هذا يرد بوضوح وصراحة في مؤلفاته فإن الزعم بأن حركة الخدمة تقوم تمامًا على الرؤى لا يمكن تفسيره إلا بأنه نية سيئة ومغرضة.
ب- يزعم التقرير أن الأستاذ فتح الله كولن أفتى بـــ”جواز أداء الصلوات الخمس مجتمعة على التوالي في وقت مناسب أو يمكن أداؤها إيماءً بالقلب أو يمكن قضاؤها لاحقًا”، و”أنه يمكن صوم الفرض في وقت آخر مناسب غير شهر رمضان”.
إنهم بهذا افتروا بصورة صارخة على كولن، كما سعوا إلى تكوين صورة ذهنية توحي بأن حركة الخدمة بعيدة عن الهدي القرآني والنبوي وتتحرك بأفكار منحرفة متطرفة. أما الواقع فإن الأستاذ فتح الله لم يصدر أية فتوى من هذا القبيل على الإطلاق، ويجب على من يزعمون هذا أن يؤيدوا زعمهم بجملة واحدة شفهية أو كتابية ويثبتوا صحة زعمهم.
12- نرى أمثلة على الجهل في أماكن متفرقة من التقرير
يلفت الانتباه أن من أعدوا التقرير كانوا جهالًا ببعض الأشياء أو أنهم تناسوها وغضوا الطرف عنها، ومن ذلك على سبيل المثال:
أ- الادعاءب أن ذبح أضحية عن رسول الله لم يحدث من قبلُ إلا عند حركة الخدمة، ولا وجود لعبادٍة على هذا النحو في كتب الفقه، وهذا مثال ودليل على جهلهم.
كما يمكن التصدُّق باسم إنسانٍ بعد موته والحجّ عنه، فكذلك يمكن أيضًا ذبح الأضحية باسمه، ولا سيما أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذبح عمَّن لم يُضحِّ من أمته (الترمذي، الأضاحي 10؛ الطبراني، المعجم الكبير، 3&182؛ معجم الزوائد، 4&23)، وبما أنه يجوز ذبح الأضحية بعد موت أي مسلم فلا يمكن القول بعدم جواز ذبحها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان علي رضي الله عنه يضحي بكبشين، أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه. فقيل له فقال: أمرني به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أدعه أبدًا. (انظر كتاب الأضاحي من سنن أبي داود والترمذي ومستدرك الحاكم)، أما قول رئاسة الشؤون الدينية “إن فعل سيدنا علي رضي الله عنه لا يمكن أن يكون دليلًا في هذا الموضوع” فليس إلا تفسيرًا شخصيًا يفتقر إلى الدليل، لأننا في ديننا نستدل بتطبيقاتِ وأفعالِ صحابة رسول الله، ولا سيما الخلفاء الراشدين.
ب- يزعم التقرير أن الأستاذ كولن يؤول آيات القرآن الكريم بأشكال مختلفة غريبة. والحال أن هناك آلافًا من العلماء منذ الماضي وحتى اليوم قد أتوْا بتفسيراتٍ شتى بحق آيات القرآن الكريم، والمهم في هذا هو ألا تتعارض تلك التفسيرات والتحليلات مع روح الدين وأسسه العامة. أما استغراب تفسيرات الأستاذ وتأويلاته والهجوم عليه بناء على ذلك فيعني فتح الباب للفكر السيكولاتي الكاتدرائي.
ومن ذلك على سبيل المثال أنَّ الأستاذ كولن يقول إن الروح التي جاءت السيدة مريم وبشرتها بسيدنا عيسى عليه السلام في الآية 17 من سورة مريم ربما تكون روح سيدنا رسول الله، ويبني وجهةَ نظره وتأويلَه هذا على حديثٍ نبوي حول زواج الرسول من مريم العذراء في الجنة، ويشرح هذا شرحًا أصوليًا ومنطقيًا، فيقول: “جل المفسرين اتفقوا على أن الروح الواردة في الآية هي جبريل عليه السلام. إلا أن كلمة “الروح” جاءت مطلقة في الآية، لذلك ورد اختلاف بين المفسرين في تعيين هذه الروح على وجه التحديد. لذا فإن هناك أكثر من احتمالٍ في هذا الصدد، بما فيه روح سيدنا عليه الصلاة والسلام الذي يشير في سياقٍ معين إلى زواجه من مريم العذراء في الجنة. ومن هذه الناحية، من الممكن أن تكون الروحُ الذي تمثل لمريم عليها السلام بشراً سوياً روحَ سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. إلا أن ذلك ليس قطعيًا، بل هو احتمال. والاحتمالات لا تفيد القطعية حتى تساندها الأدلة والبراهين”.
ومثال آخر: جاء كولن بتفسيرٍ بشأن كلمات “نصر الله” و”الفتح” الواردة في سورة النصر اعتمادًا على قواعد النحو؛ غير أن رئاسة الشؤون الدينية أوَّلته تأويلًا مختلفًا مما ينبئ عن جهلٍ؛ إذ يقول الأستاذ كولن يمكن اعتبار كلمة “فتح” الواردة في السورة “فتح الله” عطفًا لها على كلمة “نصر الله”، لكن لفظ الجلالة (الله) لم يُذكر هنا بحسب ما تقتضيه قاعدة العطف، ويذكر أن في هذا حكمةً. أما رئاسة الشؤون الدينية فإنها تزعم أن الأستاذ يستدل لاسمه ورسالته من هذه المعلومة البسيطة المذكورة، الأمر الذي لا يمكن توليفه بحسن الطوية.